مرويات قومية

أبناء المنفي رواية وتاريخ

} للأمين نواف حردان

من المؤلفات غير المعروفة كثيراً، للأديب والمؤرّخ الأمين نواف حردان، كتاب أبناء المنفي، للكاتب الإسباني فرناندو كونساليز.

إلى المهتمين بما أنتج الأمين نواف من روايات تاريخية، ومن مؤلفات مختلفة جديرة بأن تُقرأ، نورد ما كان نشره في عدد مجلة الرابطة عن شهر تشرين الأول 1973 ، عن كتاب «أبناء المنفي» الغني جداً بالمعلومات عن الفترة الأخيرة للوجود العربي في بلاد الأندلس.

                                                                                   ل. ن.

 

لدينا كتاب قديم، لمؤلفه الكاتب الإسباني الكبير، فرناندو كونساليز، مترجم للبورتغالية ومطبوع في ليشبونة عام 1876.

الكتاب مدهش فعلاً.. وهو رواية تاريخية تقع في مجلدين من أربعة أجزاء و1435 صفحة، تروي بأسلوب بديع مؤثّر أخّاذ، قصة الحروب الأخيرة التي دارت بين العرب والإسبان، قبل أن يلقي العرب سلاحهم نهائياً بعد خسارتهم إسبانية، وتنبش من زوايا التاريخ، تفاصيل المقاومة البطولية الطويلة للاحتلال الإسباني، التي قادها يحيى بن الأحمر آخر الأمراء العرب في إسبانية.

يحتوي الكتاب معلومات كثيرة مستقاة من مصادر موثوقة لا تزال مجهولة من العدد الكبير بيننا، ويسجّل حوادث تاريخية صادقة بأسلوب روائي بلغ فيه الكاتب قمة الإبداع، وأنصف العرب إنصافاً عادلاً شريفاً، ودعا الإسبان للانحناء أمام بطولاتهم إعجاباً واحتراماً، واعترافاً بما أعطوه لإسبانية وأوربة من علم وثقافة ومعرفة وحضارة.

عنوان الكتاب «أبناء المنفي» وسنقوم في المستقبل بترجمته للعربية نظراً لقيمته الكبيرةنكتفي الآن بإعطاء القارئ صورة مصغّرة عنه، وننقل منه فصلاً خاصاً برأي المؤلف في «الحروب» الأخيرة التي دارت بين العرب والاسبان، واعترافه الكبير بما أدّاه العرب لإسبانية.

«يشعر المؤلف باشمئزاز حقيقي كبير، اشمئزاز من الهول والوحشية عندما يصل إلى هذه الحقبة المصبوغة بالدماء من تاريخ تلك الأيام. لأن ما سيتكلم عنه المؤلف لم يخلقه خياله العاطفي الثائر.. إنه وقائع مخيفة، نتيجة الضغط المخيف من سلطة طاغية أثيمة على العرب في مملكة غرناطة خلال 67 عاماً.

خلال هذه الحقبة من الزمن، لم يعامل العرب كبشر، ولكن كأشياء كان يتصرّف بها الفاتح المتوحش بحسب إرادته.

كل المظالم التي يمكن أن توجد، كل التجاوزات والاعتداءات على كرامة الإنسان، كل الإهانات والاضطهادات تعرّض لها العرب في إسبانية..

لم يحاول الفاتح أن يترك لعامل الزمن كي يساعد على أن يهضم الإسبان العرب باعتدال وتساهل، بمعونة الدين والشرائع والعاداتلم يحاول أن يعمل لتفاعلهم وانسجامهم مع الشعب الإسباني تدريجياً.. لم يحاول أن يخفف عنهم ثقل النير كما كانت تقضي شروط التعامل الشريف وشروط السياسةولماذا لا نقولشروط الرحمة؟

منذ البدء.. منذ اليوم التالي لفتح غرناطةبدأ السعي لتدمير العرب.

إسبانية التي أفقرها الرهبانإسبانية المتعصّبة العمياء، كانت تجهل تمام الجهل كم هي مدينة للحضارة العربية.

إذا كان لديها صناعة ما في تلك الأايام، فهي صناعة العرب. إذا كانت قد ارتقت نفسيتها الغوتية القاسية، فبفضل احتكاكها بهم.. إذا كانت زراعتها ازدهرت، وإذا كانت أراضيها التي كانت قبلاً قفراء بائرة، تحوّلت إلى حقول خصبة ترويها أقنية الريّ، فتلك الأقنية حفرها العرب. إذا كان أطباؤها ومثقفوها يعرفون شيئاً ما، فلأنهم شربوا المعرفة من مدارس قرطبة أو قرأوا الكتب التي طلعت من تلك المدارس أقباساً من النور.

إنّ الروح الحضارية للشعب العربي تغلغلت بعمق في الشعب الإسباني.. منها سمع الكاستلياني أصواتاً لا تُحصى، ومن قوانينها أخذ عدداً كبيراً من الشرائع حتى أنه استعمل نفس نظامها المالي والإداري، حتى ألقاب قُضاته وألقاب الموظفين الكبار في الدولة.

في الحقبة القليلة التي سيطر فيها العرب في إسبانيا، رئيس القوات البحرية الإسبانية كان يُدعى أمير البحر (أميرال). القاضي كان يُدعى (القاضي) والقائد كان رئيس الجند و(الوالي) كان المحافظو(الوكيل) كان موظفاً كبيراً.

عمارات الإسبان، ملبوساتهم، وأسلحتهم، تلوّنت باللون الشرقي الذي كان يميّزها عن عمارات وملبوسات وأسلحة الشعوب الأوروبية الأخرى. حتى في دينهم يوجد تأثير عربي على القداديس الموزارابية.

في الشعرفي الموسيقى.. أعطونا ميزاتهم وآلاتهم. الشعر الإسباني الجيد في أيامنا هذه، لا يزال يحتفظ بالإيقاع الجميل والشكل المقفى المقطّع للشعر العربي.

لا نزال نحتفظ بالقيثارة كآلة طرب مفضلة، والصنوج والطبول كآلات تُستعمل في الحروب.

إشارات وعلامات الشرف.. الأعلام التي قادتنا مرات عديدة إلى الحروب والانتصارات، ليست الأعلام والنسور الرومانية، ولكنها الأعلام ذات الجناحين، التي نقلّد بها الأعلام العربية التي كانت تخفق في قرطبة وطليطلة وغرناطة.

ولكن لماذا نجهد النفس لكي نبرهن على تأثر حضارتنا بالعادات العربية؟

يكفي بأن تطأ قدم غريبة ما الأرض الإسبانية، حتى يجد صاحبها آثار ذلك الشعب الذي كانالحصن، الكنيسة، المدينة، الحقول، تدلّ بوضوح في كل إسبانية على التأثير العربي.

اللغةالعادات.. الأغاني الشعبية.. الأعياد.. لا تزال تحفظ حيّة روح ذلك الشعب الذي مرّ من هنا كالشهاب، مع طيران الفتح السريع الذي امتدّ من اليمن حتى جبال البيرينيه، زارعاً في كلّ مكان آثار مروره التي لا تُمحى.

يمكن التأكيد بدون أي خوف من أن يكذب القول بأنّ نصف دماء الشعب الإسباني هي عربية، وبكلمة مختصرة: إذا كان أجدادنا هم المتحدرون من بيلاجو وتيودوريمو، فأجدادنا هم أيضاً المتحدرون من طارق بن زياد وموسى بن نصير… 

أتريدون أن تعرفوا امرأة عربية أصيلة؟ اذهبوا إلى الأندلس وفالنسيا.

أتريدون أن تروا هذه الامرأة بكل صفائها وكل إشعاع جمالها الرائع الأخاذ؟ توغّلوا في جبال البوخرّاس، وسيروا على شواطئنا من حويلفة إلى جبل طارق، وعلى شواطئ البحر المتوسط من جبل طارق إلى فالنسيا.. اختلطوا بسكانها، وتعرّفوا على لغتهم ولهجاتهم، ولاحظوا عاداتهم، وادرسوا عواطفهم. عندئذ تتأكدون بأنكم ترون بين أولئك السكان، المرأة الشرقية التي أتى بها العرب إلى إسبانية.

وتسمّعوا إلى الإنشاد الشعري عند ذلك الشعب، تجدون الخيال العربي بكل حقيقته وكل اتساعه وكل أحاسيسهشعر حب. شعر ألم.. شعر أمل.. بأربعة أبيات مقطّعةشعر غير مكتوب يرتجله القلب وتنشده السعادة طوراً، وتارة ينشده اليأس، وأحياناً يغنّيه الشوق العارم.

وتفرّجوا على الرقص، يرافقه الغناء والقيثارة. لاحظوا التنورة القصيرة التي ترتديها الراقصة بكل طيّاتها وألوانها الزاهية، والصدرية المشدودة إلى قد أهيف، وكتفين متحرّكين وصدر بارز وذراعين بضّين شهيينلاحظوا ذلك المنديل الجميل ذي الألف لون، الذي يغطي شعراً أسود كالليل، تنحدر جدائله لتلامس وجهاً ضاحكاً أسمر أو أبيض نقياً، ذي عَينَين سوداوين ناعستَين ترشان نظرات برّاقة حبّاً، وذي شفتَين توزّعان الابتسامات كي تساعد العينَين في معارك الحب الكبير.

حدّقوا جيداً بذلك الشاب الذي يرافق الراقصة في رقصها، وزناره العريض الملوّن، وسرواله المشدود العريض وجزمته اللامعة، أو حذاءه الأبيض.. لاحظوا سكّينه أو موساه يطلّ رأسه من جيبته الداخلية.. وأصغوا جيداً إلى أصوات النقاشات، وتصفيق الحضور يرافق القيثارة والأغاني والرقصوالمشهد الجميل الذي يبدو أمامكم.. وارفعوا عيونكم لتروا فوقكم سماء صافية تغمر ذلك المشهد بأنوار حارّة، فتتأكدون عندئذ بأنكم تشهدون رقصاً عربياً.

جذور قوية وعميقة ترك ذلك الشعب في الأرض الإسبانية، فامتزجت دماء الغالب بدماء المغلوب، حتى أنه لم يبقَ فرق بينهما سوى كتابَين.. كتابَين متشابهَين جداً لا يتعارضان.

إذا نزعتم القرآن من أيدي عرب إسبانية وأعطيتموهم الإنجيل، وإذا نزعتم الإنجيل من الإسبان وأعطيتموهم القرآن.. عندئذ لا يبقى أمامكم سوى شعب واحد.. شعب ممتاز.

يقول البعض بأنّ العرب أخذوا كثيراً من أخلاق الإسبان! أما نحن فنقول بأن الإسبان أخذوا من أعدائهم كلّ ما تمكّنوا من أخذه، حتى أنهم صاروا شبيهين بهم، ولا فرق بينهما»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى