أخيرة

النضال الإنترنتّي…
بين وهم المعرفة والجهل!

  د. كلود عطية*

يقول عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكنج: «أعظم عدو للمعرفة ليس الجهل، وإنما وهم المعرفة». وبالتالي اعتقاد الإنسان أنه يعرف أكثر من معرفته الحقيقية، أو، الاشتباه بين الاطلاع والمعرفة.

 أما إسقاط هذا الوهم المعرفي إنترنتياً وإعلامياً، فهو حالة شاذة عن القاعدة الأساس التي يُبنى عليها ومن خلالها الخبر.. فالبحث العلمي الذي يُنشر على المواقع الافتراضيّة قبل تقييمه واقعياً يُضعف من قيمة البحث والباحث.. والبيانات والخطابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المقنعة، تعكس شخصية الناشر الحقيقية، أو الوهمية.. إلا أنّ الأخطر من هذه الشخصية الافتراضية هو ما يصدر عنها من تغريدات وتحليلات علنية.. أسوأها على الإطلاق نشر الإنجازات والنضالات بطريقة عشوائية، يكون لها انعكاس سلبيّ يسقط هيبة الإعلام المؤسّسي، ويشوّه صورة المناضلين الحقيقيين. حيث بات الاقتراع العلني مثلاً على دمائهم ومسيرتهم التاريخية النضالية والاستشهادية على مواقع مشبوهة من هنا، وأسماء وهميّة من هناك، يُرسّخ مفهوم الجهل في تلك العقول التي تدّعي المعرفة

ما أثار الأسئلة الإشكالية عند المحللين والمتابعين والمسؤولين الملتزمين، عن هذه الفوضى المتمرّدة على النظام والاتزان الأخلاقي والفكري والمجتمعي.. فالآلاف من الفايسبوكيين يحللون في المبادئ والقيم والصراع، وهم مجرد أحجار شطرنج تحرّكها شياطين السياسة والأحزاب.. كما ونرى الآلاف من المحلّلين الاستراتيجيين والجيوسياسيين وخبراء في العلاقات الدولية والإقليمية، وهم مجرد أزلام لأمراء الطوائف والسياسيين العاملين في الغرف السوداء المفتعلة للأزمات والمحرّكة للثورات الملوّنة والتحركات المشبوهة، التي تستهدف صنع الفوضى وزعزعة الاستقرارفي مقابل ذلك، نرى عدداً قليلاً من المحللين السياسيين والمثقفين والأكاديميين المتخصصين، الذين يشكلون قوة المعرفة التي تبني المجتمع وتحميه من الجهل، ومن تلك الخراف البشريّة الضالة في الداخل وعبر الحدود، التي تقارب القضايا الوطنيّة والإنسانيّة، من منطلقات انعزالية زبائنية شخصانية.

بناء عليه، نرى أنّ معظم المقاربات العلمية مفقودة، فالانتماءات الضيقة المريضة التي كانت تقتصر على المواقع الإدارية الرسمية والخاصة، باتت تحتلّ كلّ المواقع التي يراها الإنسان ويتفاعل معها.. والنتيجة أنّ المعرفة المتشخصنة المتصهينة المرتهنة للأنانيات الدينية والطائفية والشخصانية المتألهة هي مصدر ضعف وطريق سهل نحو الانحدار القِيَميّ والأخلاقي وانهيار المبادئ الوطنية والقومية

 نستعين هنا، بنظرية دانينغكروجر المعرفية: «إن الإنسان يميل إلى تعظيم مقدار معرفته مقارنة مع مواطن جهله، وغالباً ما يعتقد أنّ مقدار معرفته هو أكبر بكثير من حجمها الحقيقي، على عكس اعتقاده بنقاط ضعفه (المعرفيّة أو المهاريّة والفنية).

وإنّ الإنسان كلما تطوّر وتقدّم على سلّم المعرفة، أدرك حجم نقصه المعرفي، واعترف بتواضع معرفته وخبرته.

باختصار، كلّما انخفضت فرص الفرد في المنافسة واكتساب المعرفة الحقيقية انخفضت قدراته ومؤهلاته، مما يؤدي إلى حالة من الجمود الفكري والوهم المعرفي (أنا خبير).

سأنطلق من هذه النظرية المعرفية، علّني أوضح كيف يتمّ التبادل العشوائي للمعرفة المصطنعة أو الافتراضية وصولاً إلى المعرفة الوهميّة، التي تنقل الحقائق المشوّهة أو المزوّرة القائمة على مغالطات أخلاقية غير منطقية، إلا أنها مدبّرة ومخطط لها بطريقة تثبت غياب الوضوح والموضوعية والحقيقة.. وبالتالي يؤدّي نقل مثل هذه الحقائق المشوّهة ونشرها وتوزيعها وتحليلها إلى تعميق حالة الجهل والتراجع الأخلاقي والتخلي عن المبادئ والقيَم

من هذا المنطلق، تفتقد المواقع الإعلاميّة والتواصليّة إلى النشر المنطقيّ الموضوعيّ، القائم على التحليل العلمي والبحث والتقصّي، والمعلومات الموثوقة الموثقة من مراجع أثبتت مصداقيتها العلمية أو المجتمعية أو الحزبية.. إلا أننا أمام مصادر لا تمتّ إلى المنهج العلمي بصلة، كما أننا أمام فئة من الناشرين المرتهنين الوهميين، لا تهمّهم صحة المعلومات ودقتها، بل ما ينتج عن النشر من التعدّي على الرأي الآخر، أو، تزوير النتائج، أو، تشويه الحقائق، وغالباً لغايات لا تمتّ إلى الأخلاق بصلة

في العالم الافتراضي/ الواقعي، لا نرى إلا النضالات الفايسبوكية، أو، التغريدات الفلسفية.. حيث تصبح المعرفة/ الجهل مجرد أداة تهديم للمجتمع. هذا الواقع الذي سمح للجاهل بالكتابة والتعبير باسم المعرفة وهو لا يمتلك أية أرضية ثقافية أو معرفية أو علمية، إلا أنه بات يعبر في صفحات الخيال وادّعاء المعرفة، ونقلها ونشرها من دون أيّ نقد أو تحليل أو بحث عن الحقيقة…!

وهنا تكتمل دائرة نقل الجهل بدلاً من نقل المعرفة، وننتهي باكتساب الجهل بدلاً من اكتساب المعرفة.

في السياق نفسه، نجد أنّ هناك أنواعاً من الجهل فضحتها وسائل التواصل الاجتماعي، من عشاق الظهور إلى المتملقين، إلى النرجسيين، إلى قادة الجهل المفرط، وهم يمارسون مرض السلطة والفوقيّة وهم بحالة من الوهم المعرفي. لنراهم مدمنين على شبكات التواصل الاجتماعي لتمرير أفكارهم المريضة، ومشاريعهم المسقطة عليهم، والمفروضة من جهات تدرك نقاط ضعفهم وجهلهم.. والأخطر، أنها استطاعت أن تؤثر على أغلبية الأفراد بعيداً عن الحقيقة والمنطق، لتحوّلهم مجرد مُتلقّين لا يفرّقون بين الكذب والحقيقة وبين الجهل والمعرفة..

يقول المفكر الأميركي كليفورد جيرتز: «إنّ اعتقاد الفرد بأمر ما من دون أدلة كافية هو أمر مُضرّ بالمجتمع كله، بل هو عدوى تنتشر في المجتمع. وإنه لمن الخطأ دوماً وفي أيّ مكان، الاعتقاد بشيء من دون براهين منطقية». وعليه، لا بدّ من معرفة الحقيقة المثبتة بالأدلة والعمل بها ونشرها.. أما الاعتقاد الخاطئ بنهائية النتائج المعرفية غير المثبتة بالدلائل والبراهين والوثائق، فهو ترجمة حقيقية للجهل من ناحية، أو، ادّعاء الجهل لتحقيق مآرب شخصية أو مؤسسية، سيكون مصيرها الانهيار الحتمي مع الوقت.. أما بالنسبة للمناضلين الفايسبوكيين فما عليهم إلا الإدراك بأنّ لغة الباطل لا ينطقها ويتناقلها إلا الجاهل، وهي أشبه باللغة الشعبويّة التي لا تمتّ للعلم والمعرفة وثقافة الحياة بصلة.

*عميد التنمية الإدارية في الحزب السوري القومي الاجتماعي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى