الوطن

جو بايدن… تحديات وأزمات ما بعد دونالد ترامب

} أمجد إسماعيل الآغا

ضمن الإطار الرئيس لتحليل الحقبة الأميركية الجديدة بقيادة جو بايدن، لا بدّ أنّ ننطلق من جزئية ترتكز في المضمون على أنّ الرئيس المنتخب بايدن يعدّ بمثابة التعبير النموذجي عن العمل المؤسساتيّ في السياسة الأميركية، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عمله نائباً برلمانياً ونائباً للرئيس باراك أوباما، الأمر الذي يعطينا فكرةً واضحةً عن بايدن والذي يُعتبر نموذجاً واضحاً عن الكتلة الوسطية والتوازن في المجتمع الأميركي. وفي جانب آخر، فإنّ هذا التوازن سيفرض على بايدن أيضاً الاستجابة في بعض المسائل الداخلية وكذا الملفات الإقليمية والدولية، لِما تريده الكتلة اليسارية التي لعبت دوراً كبيراً في وصوله إلى البيت الأبيض.

بهذا المعنى، بات واضحاً أنّ الآليات التقليدية لدور مؤسسات صنع القرار في واشنطن ستعود إلى حيويتها وفاعليتها من جديد، الأمر الذي يشي بأنّ غالبية السياسات والتوجهات المقبلة متوقعة في مناح عديدة، يضاف إلى ذلك أنّ البرنامج الانتخابي الذي أقرّه بايدن إبان ترشحه للرئاسة، يوحي إلى حدٍّ كبير بعناوين الفترة الرئاسية المقبلة وأطرها العامة، مع وضع محددات جزئية لتلك العناوين بما يتسق والنهج العام للاستراتيجية الأميركية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

نتيجة لذلك يتوقع أنّ يبدأ بايدن بسياسات من شأنها إعادة تماسك حلف الأطلسي وتقويته، مع وضع خطوات لحلحلة الكثير من الملفات الشائكة كـ العلاقة مع روسيا، وهذا يعني في إحدى الجزئيات العودة السريعة للشراكة التقليدية بين واشنطن والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن إمكانية أن يحدث تقارب تدريجي وتفاهمات في كيفية التعاطي مع إيران، وملفات أخرى مثل كوريا الشمالية، كما سيستمرّ التنافس مع الصين لكن بشكّل حذر لا يهدّد الاستقرار العالمي، شريطة أنّ لا يتصاعد الحضور الدولي لـ الصين، الأمر الذي يحتاج بعض الوقت لرصده وتفنيد ماهيته في هذا الإطار. ضمن ما سبق، يبدو واضحاً أنّ بايدن سيعمل على استعادة التحالف مع أوروبا، وهندسة وشائج التقارب في ما بينهما.

في المقابل، تبقى مواجهة روسيا في الشرق الأوسط من أكثر الملفات صعوبةً وتعقيداً، وعليه ينبغي ملاحظة ما إنّ كان بايدن على استعداد لاتباع سياسة تشجِّع على الاستقرار والتقارب مع روسيا وكذا الصين، لا سيما وهو القادم من أحضان مؤسسة الحكم الأميركية، وعرف خلال عقود من عمله في واشنطن في مناسبات عدة، بمساندة سياسات إمبريالية تفتقد إلى السند القانوني، مثل تشجيعه على غزو العراق. وبالتالي يمكننا القول إنه ما ليس واضحاً تماماً هو التغيير الذي سيُحدثه بايدن على صعيد السياسة الخارجية، لا سيما في ملفات الشرق الأوسط والعلاقات مع الصين وروسيا.

في جانب موازٍ، فإنّ إدارة بايدن لن تبقي الغطاء الذي وفره دونالد ترامب لبعض الدول الخليجية وكذا العربية، وربما تلجأ إلى مقاربة أكثر تشدّداً في محاسبة أنظمة مثل مصر والسعودية والإمارات على انتهاكاتها لحقوق الإنسان. وربما سيكون بايدن حازماً لجهة العمل على إنهاء مأساة الحرب في اليمن، ولكن رغم ذلك، فإنّ التصورات المرتبطة بإمكانية أنّ يتمّ العمل على إسقاط الأنظمة في السعودية والإمارات ومصر، هي تصوّرات خاطئة، إذ لا تزال هذه الدول في الاستراتيجية الأميركية أداة تنفيذية لمجمل السياسات الأميركية. من جهة أخرى، ثمة غياب لأيّة مؤشرات على أنّ بايدن سيحدث تغييراً جوهرياً في السياسة الأميركية تجاه سورية، وحتى في إيران التي كانت تنتظر هزيمة ترامب، لكن في هذا الجانب لا يتوقع أنّ يعود بايدن إلى الاتفاقية النووية بدون مفاوضات مسبقة؛ ومحاولات للحصول على بعض المكاسب قبل رفع العقوبات عن إيران.

المسألة الأكثر غموضاً تتعلق بلا شك بموقف بايدن من تركيا. فقد سرّب في وقت سابق شريط صوتي لمقابلة أجراها بايدن نهاية العام الماضي مع محررين من صحيفة «نيويورك تايمز»، إذ هاجم بايدن خلال المقابلة إدارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ووعد بالعمل على تغييرها. وبالرغم من أنّ شكوكاً أحاطت بطبيعة حديث سياسي أميركي تقليدي مع صحافيين ليبراليين، وما إنّ كان بايدن يعني بالفعل ما يقول، فمن المؤكد أنّ بايدن يحمل تصوّرات حول مستقبل الشرق الأوسط مثيرة لقلق كثيرين في المنطقة، بما في ذلك تركيا، إذ يؤمن بايدن «مثلاً» بأنّ الفيدرالية هي الحلّ الأفضل لقضايا الصراع في الشرق الأوسط، ويحمل تعاطفاً معروفاً مع المسألة الكردية. ولكن بايدن الرئيس قد لا يتطابق بالضرورة مع بايدن السيناتور أو الشخصية السياسية العامة؛ ما يجعل موقفه من الملف الكردي ومن العلاقات مع تركيا، القوة الرئيسة في معادلة التوازن مع روسيا في الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز، مفتوحاً على كلّ الاحتمالات.

من المهمّ أن نذكّر، بأنّ إدارة بايدن لن تتخلى عن «إسرائيل» بأية صورة من الصور، ولكنها ستعمل بصورة ملموسة من أجل بقاء سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية على قيد الحياة. والمؤكد أنّ موقف إدارة بايدن من ملفات المستوطنات الإسرائيلية وشرعيتها، وما يتعلق بذلك من سياسة الضمّ الإسرائيلية، ودعم الأونروا، ومستقبل التفاوض بين الفلسطينيين و»الإسرائيليين»، ستحدّد موقف إدارة بايدن من مجمل المسألة الفلسطينية، ضمن ذلك قد يختفي الحديث عما يسمّى «صفقة القرن» بشكل تدريجي، وقد يجري استئناف جديد لفكرة الدولتين، لكن سيبقى السؤال الأهمّ، ما الذي تملكه الإدارة الأميركية الجديدة في الملف الفلسطيني في ظلّ كثير من القيود التي فرضها ترامب؟

ليس ثمة جدل كبير حول أولويات بايدن الداخلية، لا سيما أنّ الولايات المتحدة لا تزال تشهد تصاعداً حثيثاً في معدلات الإصابة بكوفيد 19. ما ستعمل عليه إدارة بايدن بصورة عاجلة داخلياً، لجهة وضع استراتيجية للتعامل مع الوباء ومع آثاره الاقتصادية على قطاع متسع من أبناء الطبقتين، العاملة والوسطى. بخلاف ذلك، سيكون على بايدن محاولة إرضاء يسار الحزب الديمقراطي، الذي اصطفّ حوله وعمل له بصورة فعّالة طوال الحملة الانتخابية، لا سيما في ما يتعلق بقضايا الصحة والعمل والتعليم، ووضع نهاية لمناخ التمييز العنصري، واستهداف الأفروأميركيين، والمسلمين، والأميركيين من أصول لاتينية. بيد أنّ تولي بايدن سلطاته الرئاسية لن يضع نهاية لـ «الترامبية»، لأنّ وجود الترامبية السياسية يرتبط بصورة وثيقة بانقسام الشعب الأميركي، الذي يبدو أنه سيستمر لبعض الزمن. وربما سيعود ترامب خلال السنوات الأربع المقبلة شبحاً ثقيل الظلّ، يلاحق إدارة بايدن في كلّ صغيرة وكبيرة من السياسات.

صفوة القول، يتبادر إلى ذهن الكثيرين تساؤل مفاده، كيف ستتحوّل التوجهات العامة لـ بايدن إلى سياسات فعلية ملموسة؟ بناءً على ذلك يمكننا القول إنّ تحقيق وتطبيق سياسات بايدن لتصبح واقعاً، سيعتمد هذا إلى حدٍّ كبير على الشخصيات التي سيختارها لمناصب مؤسسات الدفاع والأمن القومي والسياسة الخارجية، وحجم الدور الذي ستلعبه نائبة الرئيس، بالنظر إلى سنِّ بايدن المتقدمة، والمفاجآت الطارئة التي ستواجهها إدارة بايدن في عالم سريع التغيّر والتحوّل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى