ثقافة وفنون

القصَّة القصيرة جدَّاً.. مفهوم وخصائص «قرى الملول» لسليمان جمعة: تجربة رائدة في كتابتها

عبد المجيد زراقط

القصة القصيرة جداً نوع قصصيّ تروج كتابته في هذه الأيام، ويستخدم غير مصطلح في تسميته، ومن هذه المصطلحات، إضافة إلى القصَّة القصيرة جداً: القُصَيْصة، القصَّة الومضة، القصَّة بحجم الكفّ، القصَّة الشذرة، القصَّة القبسة؛ والمصطلح الأكثر صواباً من بين هذه المصطلحات هو القُصَيْصة؛ ذلك لأنَّه كلمة واحدة ويدلُّ على معنى القص، وعلى القصير منه، وهو أيضاً ما تشترك المصطلحات جميعها في الدلالة عليهفي حين أنَّ مصطلح القصة القصيرة جداً مؤلَّف من ثلاث كلمات، وهو ترجمة للمصطلح الأجنبيوأنَّ مصطلح القصَّة في حجم الكفّ مؤلَّف من أربع كلمات وقائم على التشبيه؛ وأنَّ القصَّة الومضة هي نوع آخر يقتصر على جملتين سرديتين تثيران مفارقة مدهشة مفاجئة دالَّة.

إضافةً إلى أنَّ المصطلحين الآخرين: القصة الشذرة والقصة القبسة تدلاَّن على نوع من القص التراثيمثل: وقعت فأس في الغابة، ارتجفت الأشجار، قالت كبيرتهن: لا تخفن إن لم تعطها إحداكن زنداً، تصدأ وتصبح غذاء لكنَّ.

القُصَيْصة أو القصة القصيرة جدَّاً هي بنية سردية قصيرة الحجم، لا يزيد عدد كلماتها على المئة كلمة في رأييوعلى المئة والخمسين كلمة في رأي آخروإن يكن عنصر الحجم لازماً فإنه ليس كافياً؛ إذ ينبغي أن تتوافر عناصر أخرى في النَّص القصصي ليكون قُصَيْصة. أهم هذه العناصر ما يأتي:

الحدث لحظة مهمة من الحياة، أي جزئيّة مُقْتَنَصة تدلُّ على حالة، أو موقف، أو شخصية، وليس من تفصيلات في الوقائع.

الشخصيات قليلة جداً، شخصية واحدة أو اثنتين أو ثلاثلا تُرْسم بالتفصيل إنَّما بالإشارة الدالَّة. الشخصيَّة هي دور يؤدَّى، وكثيراً ما يتمثَّل بضمير.

 الزمان والمكان متَّحدان في الغالب ومفتوحان وغير محدَّدين إلاَّ إذا كان التحديد موظَّفاً في أداء الدلالة. وبقليل من الكلمات، ما يعني أنهما فضاء قصصي ناطق بالدَّلالة.

في مسار السرد تتجلَّى ثنائية الحضور/الغياب، ما يتيح للقارئ ملء الثغرات، وبذلك يشارك القارئ في إنتاج النَّص القصصي.

 النهاية قد تكون مفتوحة وقد تكون مفارقة كاشفة؛ ما يتيح للقارئ أن يضع النهاية ويؤوِّل المفارقة، بذلك يتأكد دوره المسهم في إنتاج النص.

السُّؤال الذي يُطرح، هنا، هو: ما المفارقة؟

المفارقةاسم مفعول من فارق أي غاير وباين واختلف. والمفارقة اصطلاحاً هي وحدة لغوية توحي بما يباين ويخالف ويغاير معناها المعجمي، فقد تكون مدحاً يدلّ على الذم أو العكس؛ وقد تكون سخرية وتهكَّماً، وبتعبير آخر: هي أداء معنى بلغة لا تقوله حقيقة، وإنَّما توحي به، أو تشير إليه، ما يقتضي التأويل وبذل الجهد لذلك، فيكون المؤوِّل مشاركاً في إنتاج المعنى، وقد يختلف المؤوِّلون فيتعدَّد المعنى، المفارقة تفاجئ وتدهش بمخالفتها أفق المتوقَّع والمنتظر.

 اللغة مكثَّفة في الغالب مركَّزة مقطَّرة، ليس من كلمة غير موظَّفة. المعجم اللغويّ مأخوذ من لغة الحياة اليومية ومألوفيؤدِّي في الغالب معاني سياقية، أو إيحائية، والعبارات قصيرة بسيطة التركيب المتصف بالانزياح على مستوى بنيته: تقديم، تأخير، حذف، زيادة، وعلى مستوى المجاز بمختلف أنواعه، ما يجعل اللغة تتَّصف بالشعرية المشعَّة بالدلالات؛ وما يجعل الاقتصاد اللغوي فائض الدلالة، فيصدق قول النِّفري: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»….

من نماذج القُصَيْصَة نذكر «الجاذبية».لـ»نعيمة الفضوي «.

«تأمَّل التفاحة، كم هي مغرية وفاتحة للشهيّة. تذكر تفاحة نيوتن وتفاحة آدم وحار في معنى الجاذبية!

الحق أن هذا النوع القصصيّ يخرج على الأشكال الجاهزة، وإن كنا قد تحدَّثنا عن عناصر مكوِّنة، فذلك على سبيل تحديد خصائص عامة شائعة؛ إذ إنَّ الإبداع فرادة وليس اتِّباعاً، وخصوصاً هذا النوع من الإبداع القصصي؛ فهو وليد التجريب، المولِّد أشكالاً مفاجئة، تبدعها الذات. وهنا يصدق قول سليمان جمعة في مقدمة مجموعته القصصية «قرى الملُّول»، وهو: «إنَّ العمل الأدبي هو اكتشاف الذات…» فالذات، عندما يكتب القاصُّ قصيصته تتشكَّل على الورق، ولعلِّي أخالف «جمعة «في قوله: إنَّ الكتابة ليست تدفُّقاً تلقائياً، لأرى أنَّ التجربة الشخصيَّة الحياتية هي التي تلد الكتابة، وهي تجربة فردية فريدة، فقد تولد تلقائياً وقد تولد قيصرياً وقد تلد قيصرياً، أو تلقائياً، ثمَّ توضع في حاضنة التجويد.

وإنِّي لا أخفي أنَّ الأجود هو التلقائي، الخارج من الرحم كائناً كاملاً يسبِّح الخالق عزَّ وجل، وإنِّي لأخالف جمعة في رأي آخر، فهو يقول: «إنَّ القصَّة القصيرة جداً هي لبّ الحداثة…». وفي رأيي، وقد أكون غير بعيد عن الصواب، أنَّها وليدة مرحلة تاريخية تقتضي التعبير والتلقِّي السريعين، وتتجاوز مفهوم الذات العاقلة التي أرسى دعائمها ديكارت ثم كانت. إنَّها وليدة مرحلة أنجبت خطابات متنوِّعة ومتعدِّدة محورها نقد الأساس العقلاني للحداثة، لتؤسس التنوُّع والتعدُّد والاختلاف والتفكيك. إنها مرحلة ما بعد الحداثة القائمة على التقنية ووسائل الاتصال الحديثة المرتبطة بالعولمة.

وقد كان للمفكِّر الفرنسي «جان فرنسوا ليتوا» دور في تطوير هذا النوع القصصي؛ وذلك عندما انتقد، في كتابه: «حالة ما بعد الحداثة»، السرديات الكبرى وكشف عيوبها، ومن هذه العيوب نظرتها الشمولية وإقصاؤها السرديات الصغرى. ومن يفتح صفحات المجموعات القصصية على «الفيس «…مثلاً، يجد عشرات مجموعات القصَّة القصيرة جداً والقصَّة الومضة

الحداثة أنجبت اليقين، والأجناس الأدبية، ووضعت الحدود، وما بعد الحداثة أنجبت اللايقين وتداخل الأجناس الأدبية، وتوالد الأشكال الجديدة المتجاوزة للأشكال الجاهزة، من طريق الابتكار المتواصل غير المقيَّد بقواعد أو حدود.

والقُصَيْصَة هي نوع قصصيّ وليد هذا الابتكار، لذا فإن أشكالها جديدة دائماً ومبتكرة دائماً. وإن كنا قد بدأنا حديثنا بالكلام على تعريف لها، فإن ذلك على سبيل الحديث عن مكوّنات عامة تتخذ لدى كل مبدع البنية التي تشكِّلها تجربته

وإن يكن الأمر هكذا، فإن أخطر ما يهدِّدها هو استسهال كتابتها، والاتِّباع والتقليد وتكرار النماذج المتشابهة. إنَّ الفرادة هي الصِّنعة الأساس في هذا النَّوع من الكتابة. وقد يقول أحدهم: نجد، في التراث القصصي العربي، نماذج من القصص القصيرة جداً، مثل الخاطرة والخبر القصير والشذرة والقبسة؛ هذا صحيح من حيث التشابه في الحجم، وليس في باقي الخصائص والمكوِّنات التي تشكِّل متعاضدة نوعاً أدبياً جديداً متميِّزاً بنية ودلالة.

فالقصَّة القصيرة جداً ليست وسيلة لنقل النكت والعبر والعظات والأفكار الجاهزة؛ وإنَّما هي نوع أدبي جديد يشع بدلالة تكشف الذات والواقع، وتخرج على قواعد السرد الخطِّي المسبَّب، لتكون لها أنظمة ظهور للوحدات القصصية، جديدة وفريدة.

وقد نجد، في الأدب العربي الحديث، نصوصاً قصيرة جداً، منها ما نشره القصَّاص العراقي» مانؤيل رسام «سنة 1930على صفحات جريدتي «البيادر» «والزمان» البغداديتينومنها ما نشره الرِّوائي والقاص اللبناني توفيق يوسف عواد في مجموعته القصصية «العذارى  « الصادرة سنة 1944 وسمَّاه حكايات. قد تمثِّل هذه النصوص وسواها، ممَّا لم نعثر عليه، بدايات لم تكوِّن ظاهرة. ويمكن الحديث عن بداية الظاهرة منذ 1973، عندما استخدم القاص العراقي إبراهيم أحمد هذا المصطلح لأول مرة في تاريخ الأدب العربي، لدى نشره خمس قصص قصيرة جداً في ملف عنوانه «خمس قصص قصيرة جداً».

ثم تتالت الكتابات، وممن كتب قصصاً من هذا النوع، عبد الرحمن مجيد الربيعي والمصريان: محمد المخزنجي وإبراهيم أصلان والمغربي محمد إبراهيم أبو علو والسوريّ زكريا تامر.

تكثر، في هذه الأيام، كتابة هذا النوع القصصي وتتفاوت الكتابات، ولعلَّها في أمس الحاجة إلى النقد الأدبي والموضوعي الذي يمثل عدم قيامه بواجبه مشكلة كبرى في تاريخ الأدب العربي الحديث. ومن هذا النقد، وهو نقد انطباعيّ، ما قاله محمد الماغوط عن قصص زكريا تامر القصيرة جداً: «تشبه هذه القصص البرقية المستعجلة التي تحمل نبأ صاعقاً لا تمحوه الذاكرة. والقصَّة عنده ذات منحى واحد وشخصية واحدة في كثير من الأحيان، وهي مثل القصيدة التي يختمها الشاعر بفكرة مدهشة وساخرة.»…

وممَّن كتب في نقدها يوسف الشاروني سنة 1959 وعبد الرحمن مجيد الربيعي سنة 1969. ولأحمد جاسم الحسين كتاب عنوانه: «القصة القصيرة جدا»ً جاء فيه: «هلَّت القصَّة القصيرة جداً في السنوات الأخيرة جنساً أدبياً له أركانه وتقنياته وعناصره وإشكالياته…».

وإذ يؤرِّخ د. جميل حمداوي لكتابة القصَّة القصيرة جدَّاً، (راجع: جميل حمداوي، دراسات في القصَّة القصيرة جدَّاً، ط. 1، 2013، ص. 7 – 10)، يرى أنَّه يمكن الحديث، تاريخياً عن المراحل المتعاقبة الآتية:

المرحلة التُّراثيَّة؛ إذ «نجد في التراث العربي مجموعة من الأشكال السرديَّة النثرية التي تقترب، بشكلٍ من الأشكال، من القصَّة القصيرة جدَّاً»، غير أنَّه يذكر أنواعاً من القصِّ لا تقترب من هذا النوع من الكتابة، مثل الحكاية والقصَّة والمقامة، كما أنَّ الجذور التي يتحدَّث عنها كـ»السور القرآنية القصيرة والأحاديث النبويَّة الشريفة وأخبار البخلاء…» لا صلة لها بالقصَّة القصيرة جدَّاً.

 مرحلة الكتابة اللاواعية بالنَّوع الأدبي، وفي هذه المرحلة التي تمتدُّ من أواخر القرن التاسع عشر حتى بدايات العُقد الثامن من القرن العشرين، كُتبت القصَّة القصيرة جدَّاً «بعفوية وتلقائية، ومن دون علم» أنَّها نوعٌ قصصيٍّ مستقل، كما نجد لدى جبران خليل جبران وزكريا تامر وتوفيق يوسف عوَّاد، ومحمد إبراهيم بو علو، صاحب مجموعة «خمسون أقصوصة في خمسين دقيقة»، الصادرة سنة 1983.

مرحلة الكتابة الواعية بالنَّوع الأدبيّ، وتمتدُّ من بدايات العقد الثامن من القرن العشرين حتى يومنا هذا. وقد وُلدت هذه القصَّة، كما يقول الحمداوي، في العراق، حين سمَّت بثينة النَّاصري إحدى قصص مجموعتها «حدوة حصان»، الصَّادرة سنة 1974، «قصَّة قصيرة جداً».

تكثر، في هذه الأيَّام، كتابة هذا النَّوع الأدبي، فيذكر د. حمداوي، مثلاً، أنَّ أكثر من مئة مجموعة قصص قصيرة جداً صدرت في المغرب حتى العام 2013. وما يتيح الكلام على تجريب يفضي إلى تأصيل نوع قصصيٍّ يتميَّز بخصائص عامَّة تحدَّثنا عنها آنفاً، وفي الوقت نفسه تتَّصف الكتابات التجريبيَّة بخصائص تجعلها فريدة.

مجموعة قرى الملُّول لسليمان جمعة

في قراءة لمجموعة «قرى الملّول»، للشَّاعر والقاصِّ والنَّاشط الثقافي سليمان جمعة، نلاحظ أولاً: أنَّ نصوصها تتفاوت في الحجم، بين نصوص أولى تسطَّر على ثلاث صفحات، وثانية على صفحتين، وثالثة على صفحة واحدة، ورابعة على سبعة أو أسطر ستة، وخامسة تتألف من كلمات لا تتجاوز الاثنتي عشرة كلمة. وهذا يعني أن نصوص هذه المجموعة تنتمي إلى نوعين قصصيَّين هما: القصَّة القصيرة أو الأقصوصة والقصَّة القصيرة جداً أو القُصَيْصَة.

تندرج هذه النصوص جميعها تحت عنوان «قرى الملُّول»، فالفضاء القصصي هو القرى المضافة إلى الملُّول، أي مجموعة قرى قد تمثل منطقة المكوِّن الأساس فيها هو الملُّول. والملُّول هو شجر حرجي تتميَّز واحدته بضخامتها واتساع فيئها. وإذ يكون جمعاً فإنه يشكِّل حرجاً، ما يعني أنَّ هذه القرى المضافة إلى هذا النَّوع من الشجر هي قرى تترامى بين أحضان الشجر الجبليّ الحرجيّ، أي أنَّها تمثِّل فضاء عيش ريفي أخضر جميل لطيف هادئ بريء نقي لم يلوَّث

ولعله فضاء عيش الإنسان الجبلي البسيط الطَّاهر الرائي إلى العالم وقضاياه وأشيائه نظرة الإنسان الأولى؛ وهي نظرة الدهشة والاكتشاف والتعبير الحرّ غير المقيد، نظرة الشعر في تلقائيته الأولى.

ولعلِّي أقول صواباً عندما أقرِّر: إنَّ هذه هي النَّظرة التي ترى فيها هذه النصوص عالمها

ففي قصة «هناك…»، نقرأ: «تغفو كفراشة هادئةويستيقظ ليجد دمعاً يسهر على شفتيههذه شعرية خالقة للمعاني. تبكي، تطيل البكاء وهي تقبل شفتيه ولمَ تبكي ساهرة وهي تغفو كفراشة؟».

وفي» باقة ورد»…، نقرأ: «تنتصب قامة تحمل باقة ورد مضيئة، وهي أمه التي استشهدت وهي تملأ الجراريتعالى بها صوت القدس، ويرسمها أبوه من وراء الصخرة…».

وفي «الأذان»…، نقرأ: «تعود الأحلام إلى أقفاصهاويرتسم السؤال مَن يعيدها من أقفاصها لتزهر؟ ويكون الجواب: إنَّ الدرب ما زالت تنتظر العابرين إلى أحلامهم»…

وفي «ما زالت هناك»…، نقرأ: «يشرق الوجد بها قمراًوأي قمر هنا؟ يترك لكل قارئ أن يشكل قمره المعجون من وجده المتمثل».

وفي» هديل»، نقرأ: «جنة عشتار التي تشرق فيها شمس أمانيها. فيتفيأ في «كشف» نور هذه الشمس ولا يستطيع ان يطفئ دهشته…».

إن هذه إلا نماذج يمكن للقارئ أن يجد منها الكثير وإن كنت لا أودّ أن أكثرفأصادر بهجته بلقيا المزيد منها والتمتُّع بشعريَّتها وتأويلها والمشاركة في إنتاج النص. فإني سأتوقف عند نماذج من القُصَيْصَات أو القصص القصيرة جداًلأقرأها وأتبيَّن خصائصها.

نقرأ معاً قُصَيْصَة «ظن» (ص. 41):

«أخذت رأسها بيديها، وقالت: إذهب عنِّي لا أريدك. لم تلتفت إليه وتمتمت للهواء.. نعم لقد تركته. لم يمض بعض مساء ..بادرت تلملم بعض ظلاله المعلَّقة على حائط ذاكرتها.. نفخت فيها من شوق مغبر بالحنين.. أطلقتها فراشات من دموع. لامست غفوته. فصحا على تباشير فجر لشمس مبلَّلة.. عادت من جديد تسبح في فلكه».

تتخذ هذه القصة بنية لغوية قصيرة جداً لا يزيد عدد كلماتها على الخمسين كلمة. الكلام فيها متصل، ليس من علامات ترقيم: فواصل ونقاط. تفصل بين الجملة والأخرى نقطتان كأنهما دالَّتان على غياب يفترض بالقارئ أن يملأه.

الحدث فيها بسيط، لحظة مهمة من الحياة، امرأة لم تستطع الخروج من فلك حبيبها. في القصة شخصيتان فقط هو وهي، ضميران ليس من وصف لهما. الحدث يحدِّد هويتهما عندما يقدِّمهما. الزمان والمكان فضاء مفتوح، متحرِّك كأنَّه فضاء أسطورة. فلك شمس مبلَّلة، وفراشات دموع ترفرف. يدور حوار من طرف واحد، تخاطبه: اذهب. تطرده ولا يجيب. تتصل بالآخر. أي آخر؟

تدل كلمة الهواء على أنَّه جميع من يصله الهواء، ويلحظ هنا غياب. كأن أحداً سألها: لمَ طردته؟ فتؤكِّد للجميع تَرْكَها له. يمر زمن قصير جداً. بعض مساء. وتنثال عليها الذكريات، وهي وحيدة تبكي، وتكون دموعها فاعلة، تتمثل فراشات ويصحو من غفوته.

لعل غفوته كانت إهمالاً لها، أي غفوة عنها، وهنا نلحظ غياباً هو استرجاع سبب طردها له وإعلانها تركه. ولكن كيف عرف؟ لعلَّ فراشات الدموع رفرفت حواليه وبللت شمسه. هنا نلحظ إيحاء: هو رأى شمساً مبلَّلة. والشمس المبلَّلة دال على عالم من دموع. فسعى إليها. وعادت من جديد تسبح في فلكه. هكذا يتشكَّل مسار الخطاب القصصي من منظور يختار الوقائع وينظمهاالمنظور ينطق تأويلاً وليس خطاباً مباشراً: إنَّ الحب أقوى، وإنَّ فلك الحبيب يملك جاذبية أقوى من الإرادة. والسؤال الذي يطرح هو: هل هذه حقيقة أو ظن؟ يفيد العنوان أنها ظن. والسؤال هو:

هل تظن هي أن هذا قد حدث، وعادت تسبح في فلكه؟ أو يظن هو عندما صحا من غفوته أنَّها عادت تسبح في فلكه بعد أن طردته، وكانت ذاكرتها أي حضوره في ماضيها قد أعادها إليه، ما يدل على سطوة الماضي على الحاضر، ثمَّ طغيان حضوره هو عليها وعلى حاضرها ومستقبلها؟

تتعدَّد الدلالات وتتنوّع كأنَّها ومضات تشعّ، أو حلقات تموُّج الماء بعد أن تلقي الريح فيه حمولتها.

في البنية اللغوية القصصية اقتصاد لغوي وتناوب بين الحضور والغياب، يحضر قولها له وللهواء، ويستدعي من الغياب هو المخاطب وموقفه ومغادرته، لقد كان موجوداً إذ إنها لم تلتفت إليها. وتحدث ثغرة. لم يمض بعض مساء. ماذا حدث في هذا الزمن؟

بادرت تلملم عن حائط ذاكرتها. أين هو وكيف وصلت إليه فراشات الدموع؟ ما الذي بلل الشمس؟ وكيف بللت؟ ماذا فعل حتى عادت من جديد تسبح في فلكه؟ القارئ وهو يقرأ عليه أن يجيب عن هذه الأسئلة. وتُسْتدعى الإجابة من الغياب الذي يوحي به الحضور.

تغادر اللغة معناها المعجمي إلى معنى سياقي إيحائي يقرب من الشعر، مثل: حائط ذاكرتها. فراشات الدموعفن القص القصيربعض مساء

 وهكذا، كما يبدو، تتصف هذه القصة بما سبق أن ذكرناه في بداية حديثنا من خصائص. ونلحظ هذه الخصائص في قصص أخرى متل قصة «جميلة…». العنوان نكرة يدلُّ على العموم. الحدث بسيط، امرأة جميلة جداً تطلب مرآة. في الخطاب القصصي نقرأ أنَّها لا تعرف أنَّها جميلة جداً، عيون أمِّها والناس مرآتها. وهنا ترتسم ثنائيّة: الحنان/الإعجابالإعجاب/التوحُّش.

وإذ تطاردها نظرات في الشارع متوحشة، فتتحجب، فيسود الهدوء في الشارعوتطلب هي شراء مرآة

الخطاب القصصي مفارق للخطاب الحكائيوالسرد يتناوب فيه الحضور والغياب. والشخصية ضمير يؤكد الدلالة على العمومأي أنَّ أي جميلة هي هكذا. فنلحظ من نحو أول فاعلية الجمال، ومن نحو ثانٍ مركزية الذات التي تنطق بها المفارقة الكاشفة.

وإذ تغيب العيون تطلب مرآة، ما يعني أن عيون الآخرين حنونة ومتوحّشة في آن، وهي مرآة الذات التي تريد أن تتحقِّق، وهنا تريد أن ترى نفسها جميلة جداً.

وفي قصة» وليٌّ»، نلحظ دلالة العنوان العامة وانتهاء القصَّة بمفارقة. كيف أضيع في الوحدة هناك؟ تتمثَّل المفارقة في الضياع في الوحدة. والضياع عادة يكون في الازدحام، وهذا إنما يريد أن يكون بين الناس، وليس معزولاً عنهم. فالوليُّ الحقيقيّ يضيع إن كان وحيداً، ويحضر فاعلاً إن وُجِد بين الناس.

وفي مفارقة أخرى في قصة آدم، تنتهي القصة بـ»لقد قرأ في أوراقه ماضي عدن بعد خروجه منها» (ص. 22).

وهذه القراءة تثير خيال القارئ، فيتصوَّر ما حدث لآدم قبل خروجه وماذا حدث في الجنة بعد خروجه منها.

إن هذه المجموعة كما يبدو، تمثِّل تجربة جديدة، متميِّزة. تسهم في تأسيس هذا النوع القصصي الجديد، فتكون بذلك تجربة تجريبيَّة رائدة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى