أخيرة

أحوال كهربائيّة

} زياد كاج*

أشتاقُ لذاك الرجل الذي كان يقرع باب شقتنا في رأس بيروت بهندامه المرتّب وبتحفّظ شديد وبين يديه رزمة فواتير سميكة. قلم الحبر الجافّ الأزرق مثبت خلف أذنه اليمنى وعيناه تتجنبان التحديق المباشر. يتمتم بضع كلمات؛ يعطي أمي الفاتورة بعد أن يقبض المبلغ المحدّد، ثم يقصد باقي الشقق في البناية. كان يأتي كل آخر شهر في ذلك الزمن الهادئ الذي لم نكن نعرف فيه مشكلة اسمها: «الكهرباء».

  كل من عاش وشهد هناء عيش ما قبل سنة الشؤم: 1975، كان يعرف قيمة السلم والبحبوحة وأيام البركة والمحبّة بين الناس رغم تراكم المشاكل من حولنا ولاحقاً عندنا. بيروت لم تكن تخلد الى النوم باكراً لأن الشوارع والأماكن والبيوت كانت تبقى مضاءة. نور على نور، وعيش على عيش. سنة 1973 طُلب من أهلها طلي الإشارات الضوئيّة للشوارع والسيارات ومداخل الأبنية باللون النيلي، تحسباً لغارات عسكرية إسرائيلية عدوانيّة. شجرة الميلاد وزينة العيد التي كان أبي يثبتها في مدخل البناية بمساعدة أصدقائه البيارتة كانت مدهشة ورائعة مع كل نهاية عام.

  انقطاع الكهرباء ترافق مع قطع بيروت الى شطرين. ذُبحت العاصمة فسقط البلد منحوراً لخمسة عشر عاماً على رصيف شرق أوسطيّ. غابت الأنوار وصارت المدينة تنساق الى النوم باكراً كولد في دار أيتام. هجم الحزن التسونامي على البلد في أيام جهنميّة معدودة. أول مرة لاحظت أن لمبة (المصباح الكهربائي) دارنا وشاشة التلفزيون غير مضاءتين كانت ليلة لاحظت أبي منشغلاً في تثبيت شمعة على صحن زجاجي. صرخ بأمي لأنها لم تكن تبرع في تلك المهمة السهلة. تضعها وبعد قليل تقع أرضاً ونغرق في العتمة ونحن نسمع أصوات القصف والرصاص الآتية من خطوط التماس ومنطقة الفنادق البعيدة نسبياً عن منطقة سكننا. يُمسِك أبي، صاحب المزاج العصبي، بالشمعة وسيجارته بين شفتيه الى الجهة اليمنى من فمه، ويُشعل قدّاحته ليحرق الشمعة من قاعدتها ثم يثبّتها على الصحن. ينتظر للحظات كي تبرد قبل أن يعود ويشعلها من جديد، فنسهر على نور شمعة أو أكثر. تعلّمت الخدعة منه؛ بيوت احترقت وقضى أهلها بسبب شمعة وهم نيام في تلك الأيام.

  غاب رجل الفاتورة وحضرت أكياس الشمع في دارنا. وصرنا نسمع بعبارة «التقنين» ونوع من الجلبة والصراخ ليلاً عندما تأتي الكهرباء. «إجت الكهرباء».. ضحك وصراخ وصفير. كأن الكهرباء كائن بشريّ له قدمان يمشي عليهما:  «إجت الكهرباراحت الكهربا..». فاُسرع لإطفاء الشموع (والمناسبة ليست عيد ميلاد بل جنازة وطن) بهدف التوفير وتشغيل التلفزيون لعل نصيبي يكون سهرة مع «أبو سليم» أو «أبو ملحم» أو فيلم أميركيّ يطلق فيه البطل النار من مسدس لا يفرغ من الطلقات. أبي كان يهوى عالم الحيوان وأم كلثوم. ربما كان الرجل يدرك أن الأجواء في البلد صارت «حيونة بحيونة». نادراً ما تكلّم معنا في السياسة.

 تحسنت أوضاعنا «الكهربائيّة» عندما دخل بيتنا قنديل الكاز. صارت أمي تنير مطبخهامملكتها بنور شمعة وقرّر أبي وضع القنديل في الصالون. رائحة الكاز كانت مزعجة والمطلوب كان الانتباه للفتيل كي لا يقع ويغرق في الكاز. أنار القنديل الدار لكن نوره بقي شاحباً كئيباً يشبه الحرب القذرة والعمياء في الخارج؛ «آمنة وسالكة» يقول شريف الأخوي على الراديو. ونور الفتيل يتراقص على وقع فتح وإغلاق المعابر، فتتشحبر الزجاجة الرقيقة ويغطّيها السواد مع الاستخدام مما يضعف من قدرتها على الإنارة. يتسلّى أبي والسيجارة في فمه في تنظيف الزجاجة خلال النهار.

  كان الوالد كغيره يراقب ما تجلبه أسواق الحرب من بدائل للإنارة. جيراننا من آل سنو كانوا أهل سهر وجمعات بيروتيّة عائليّة لا تغيب عنها النرجيلة ولعب طاولة الزهر. الجيران ونس في زمن الحرب: شيء من الحياة المستمرّة. كان النور يأتي من بيتهم الأرضيّ قوياً. أطل أبي من شباكنا المطلّ على حديقتهم ليكتشف أنهم يستخدمون «لوكس» على الغاز. في اليوم التالي جلب واحداً.

  قنديل الكاز صار في مطبخ أمي، كيس الشمع وُضع في خزانة، وشعشع اللوكس بنوره الأبيض دارنا حتى وصل الى الجيران في الجهة المقابلة. رغم إيمان أبي بالصراع الكهربائي وامتلاك الطاقة، بقي أن للوكس نقاط ضعف خطيرة. أهمها «الشاشية»! تركيبها صعب جداً. وإذا ما اهتزّ اللوكس وهي حامية تتفتت. كان يحرق أعصابه كل مرة وهو يغيّر تلك الشاشيّة اللعينة. أحياناً كان يتعرق والسيجارة في فمه.

  ثم بدأت ظاهرة مولدات الكهرباء بالانتشار. الحرب لها تجارتها وأربابها. بدأت المولدات الصغيرة الحجم «الجعّارية» بالانتشار بداية أمام المحال. جارنا أبو زياد الصيداني جلب واحداً ووضعه على دولاب سيارة كاوتشوك لامتصاص الارتجاج وتجنب المزيد من الضجيج. كان يبيع البوظة العربية في محمصته بمساعدة أولاده الثلاثة. شباب أوادم لم ينخرطوا في آلة الحرب. ثم أخذت الناس تشتري الموتورات الصغيرة للاستخدام المنزلي. وكثرت المشاكل بينهم بسبب الضجيج لأنهم كانوا يضعونها على الشرفات ولم يكن دولاب الكاوتشوك ذات فاعليّة. المرتاحون مادياً جلبوا موتورات صامتة؛ فارتاحوا وأراحوا. عزّ وجاه كان موتور الكهرباء الصامت. يجنب مالكه الكثير من المشاكل والشتائم.

  فعلها أبي بعد سنوات وجلب موتور كهرباء «جعّاري» وثبته على الشرفة الخلفية (دفعت شقيقتي ثمنه). لفتني أنه خزّن مادة البنزين السريعة الاشتعال في غالون حديدي يقفل بطريقة محكمة. كان شديد الحرص على معايير السلامة. حصلت حوادث حريق كثيرة وقضت عائلات بسبب تخزين مادة البنزين وبطرق غير آمنة في البيوت.

  تعب الناس وتعبت الموتورات الصغيرة. فظهر الموتور الكبير الضخم في الحي لأول مرة على يد أبو زياد. اشتراه لتشغيل محمصته ومصلحته. لم تكن فكرة إشراك الجيران في طاقة موتور جارنا واردة. مع الأيام، سمعنا أن الجيران بدأوا يشتركون بموتور أبو زياد لتأمين التيار الكهربائي لمنازلهم. تحوّل الرجل الى شخصية محورية في الحي والكل يريد رضاه. تمكّن مع الأيام من شراء شقق لأولاده وشكّل نوعاً من البرجوازية الصغيرة في زمن الحرب. كانت التسعيرة مرتفعة لذلك لم نشترك. وبقيت حالنا تتراوح بين «اجت الكهربا» و»راحت الكهربا»، وصولاً الى بطارية سيارة مستعملة جلبها أخي الكبير للإنارة مع «شارجير» (شاحن فيه عقرب يدل على امتلاء البطارية بالطاقة). ومن حسناتها إمكانية تعبئتها من كهرباء الدولة.

  اليوم ونحن في العام 2021، أحلف بالكتب المقدّسة (قرآن، إنجيل، توراة، كتاب الحكمة) وبكل الديانات الوضعيّة وبصبر غاندي وبصلابة مانديلا وبتواضع الأم تيريزا.. أنني أشتاق لطيف ذاك الرجل الذي كان يقرع باب شقتنا في رأس بيروت قبل الحرب وفي يده فاتورة الكهرباء. كما أحلف أنني كحامل لسبع وخمسين سنة لا اُحسن حتى الآن قراءة فاتورة كهرباء الدولة الرسمية التي يجلبها لنا الناطور. أمسكها متأملاً فأضيع بين الأرقام والرموز والألوان وكأنها مطبوعة عن قصد كي لا تُفهم. فاتورة كهرباء الدولة معقدة كحالها اليوم منذ سنة 1975. يقال إن أكثر من 60% من الهدر العام يأتي من قطاع الكهرباء. وصل الإشتراك واضح وصريح وسهل القراء. يذكر المبلغ المستحق بالأرقام والحروف مع رسالة تهديد شفوية من الناطور بقطع الاشتراك في حال عدم التسديد.

  يبقى أن مشكلة «الديجانتير» (المحوّل) المثبّت على عمود الكهرباء تشكل تحدياً مزمناً. «تك المحول». نركض لإطفاء قازان المياه والتلفزيون. البراد يستهلك كهرباء أكثر مع كل تقليعة. نستنفر كي لا «يتكّ» من جديد. نستحم في البيت مداورة. «خمسة أمبير» وكهرباء الدولة وعود كافوريّة.

  يُقال إننا سنعود الى أيام «الشمعة».. الى زمن أبي. الزمن دولابلا تحرقهلا تلعن الظلمة.. تعلّم إضاءة شمعة.

*روائي من لبنان

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى