ثقافة وفنون

بصمات مبدعة.. الفنان التشكيليّ فاتح المدرس بوابتنا الأولى إلى العالميّة

}سامر الشغري

عرف الفن التشكيلي السوري المعاصر العالمية من بوابة اسمها فاتح المدرس، فهذا العملاق الفني كان العلامة السورية الأكثر حضوراً في عالم التشكيل بانياً لنفسه ولغيره مدرسة فنيّة جمعت عملية الغرب وروحانية الشرق ثم انغمست في أكثر تفاصيل البيئة والحياة السورية خصوصيّة.

المدرّس الذي مرّت ذكرى وفاته الـ 22 قبل أيام وصف بأنه فنان متعدّد الثقافات يعمل في سياق السريالية العالمية بوصفها حركة فكرية تجاوزت الغرب والشرق ليكون نتاجه حصيلة تجربة حياتية طويلة وغنية وخلاصة دراسة للتفكير التجريدي والمفاهيمي والفلسفي وقراءته للواقع الاجتماعي السياسي فضلاً عن تأثره بالبيئة والحضارة السورية ومكوناتهما الغزيرة وشديدة التنوع.

حياة المدرس كانت حافلة بالمآسي منذ مجيئه إلى هذا العالم في قرية حريتان شمال حلب عام 1922 فشهد مقتل والده وهو طفل صغير فتلقت والدته عبء تربيته مستعينة بأخواله تارة وبأعمامه تارة أخرى، ولكنه ظل شديد التعلق بها حتى بعد وفاتها، فقال في سنواته الأخيرة «أمي وشقائق النعمان هما أكثر ما أحببته في هذا العالم فكنت دائماً وأنا طفل أقطف هذه الزهور من البرية وأحملها لها».

السنوات التي قضاها المدرس في الريف الحلبي ضربت عميقاً في ذاكرته فما زلنا نشاهد صدى لها في لوحاته فهو لم ينس ما فيها من صخور ونباتات وحيوانات وكان يحب كثيراً صوت الريح ويعتبرها وصداها على الأشياء كالأعمدة والأشجار والعيدان الصغيرة من أكثر الأمور تأثيراً عليه.

أول مَن اكتشف موهبة المدرس الفنية كان معلماً في المدرسة الابتدائية فكان يطلب منه وهو تلميذ في الصف الرابع رسم مناظر طبيعيّة وعندما كان ينجز اللوحة كان يتأملها بإعجاب ويقول له «كويس» ما جعل فاتح الطفل يشعر بأنه ولد رساماً.

وبعد أن نال المدرّس شهادة التعليم الثانوي سافر إلى بيروت ليدرس في الجامعة الأميركية اللغة الانكليزية وبعد أن رجع إلى حلب بعد انتهاء دراسته عمل مدرساً وشرع يطوّر موهبته الفنية ويوسّع مداركه فيها. فشارك خلال عام 1947 بالمعرض الأول للفنانين التشكيليين السوريين في مدرسة التجهيز في دمشق ومعرض الفنانين العرب في بيت مري في لبنان لينظم أول معرض فردي له سنة 1950 في نادي اللواء في حلب.

وكان عام 1952 الأهم في تجربة المدرس وفقاً للناقد التشكيلي سعد القاسم ففيه شارك في معرض أميركي حيث نال جائزة على لوحته «راقصة العصر» ونالت لوحته الشهيرة كفر جنة جائزة المعرض الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني في دمشق والتي اعتبرت فاتحة اتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري.

وفي عام 1954 سافر المدرس إلى روما حيث درس لمدة ست سنوات في أكاديمية الفنون الجميلة وكان أستاذه فرانكو جنتليني ويعتبر أعظم فناني بلاده في زمانه الذي طلب منه أن لا ينساح باتجاه الغرب وأن يبقى في حلمه الشرقيّ ودعاه لأن يكرس شخصيته الخاصة.

وبعد أن رجع المدرس إلى سورية سنة 1960 كان من أوائل الفنانين الذين تولوا التدريس في كلية الفنون الجميلة المفتتحة حديثاً ولكن شغف الفن ودراسته دفعا به لأن يسافر ثانية بعد تسعة أعوام إلى باريس حيث حصل على درجة الدكتوراه من أكاديمية الفنون الجميلة.

وخلال سنوات دراسته وطد المدرس صداقة عميقة مع المفكر الفرنسي جان بول سارتر الذي اقتنى له أربع لوحات وترجم مقطوعات شعريّة لفاتح من الإيطالية إلى الفرنسية، ولكن هذه الصداقة توقفت بعد أن جنح سارتر في سنواته الأخيرة إلى دعم الصهيونية.

المدرس وهو أحد الفنانين القلائل الذين تباع لوحاتهم في مزادات الفن العالميّة بأسعار عالية كان أحد الأعضاء المؤسسين لنقابة الفنون الجميلة في سورية سنة 1967 ثم تولى رئاستها 11 سنة فتحلق حوله عدد كبير من الفنانين الشباب وطلاب كلية الفنون وكان تأثيره عليهم كبيراً، كما يوضح القاسم وساهم في دفعهم نحو إطلاق حريتهم الإبداعية والبحث في التراث المحلي والموروث الإبداعي وكثيراً ما كان يساهم بالحديث عن تجاربهم في الندوات التي تقام بمناسبة معارضهم.

وبنى المدرس علاقات شديدة الصلة مع مثقفين وأدباء سوريين وعرب كبار أمثال عبد الرحمن منيف وأدونيس ومحمد ملص ومما يسجّل له أنه قام خلال حياته بإهداء لوحاته إلى اصدقائه بل إنه أكثر الفنانين إطلاقاً إهداء للوحاته.

أثر المحن التي طالت حياة المدرس ظهرت جلياً في لوحاته فهو فقد طفلين أنجبهما من زوجته الأولى الإيطالية جراء حادثين منفصلين ورغم قوله إنه تعامل مع هاتين المحنتين بصبر وشجاعة إلا أنه بوسعنا رؤية اطياف أطفاله بأعماله في رمزية يكسوها الحزن والأسى.

وفي عالم الألوان كان المدرس يخاف من الأصفر والأخضر ويتعامل معها بحذر بينما كان يميل للأحمر في اللوحات ذات المضمون السياسيّ، وكان يميل إلى الذهبي متأثرا باستخدامه في الفنون القديمة كالبيزنطية ويستخدمه لـ «قتل» بعض الألوان في اللوحة وكان يرى أن الأبيض هو السيد في اللوحة وباقي الألوان ضيوفاً مؤقتة كما استخدم الأزرق بعنف وأعطاه طابعاً حياً ومقاتلاً بصورة أكثر ذكاء ونبلاً.

 

 

 

 

 

 

 

وعبر دراسته العميقة لأعمال كبار الفنانين ولا سيما الحداثيين منهم توصل إلى أن اللوحة نتاج انفعالات محددة ومكان وزمان معينين، لذلك وجد نفسه غير قادر على تقليد نفسه ورسم لوحة تشبه سابقاتها.

وعبر مسيرة حياته نال المدرس الكثير من الجوائز والأوسمة محلياً وخارجياً من وسام الاستحقاق السوري الذي منح له بعد وفاته سنة 2005 وجائزة الدولة للفنون سنة 1985 والجائزة الأولى من أكاديمية الفنون الجميلة بروما والميداليّة الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي وميداليات عديدة فنية عربية وأجنبية.

وطافت لوحات المدرس في 20 معرضاً فردياً في سورية والعالم فتنقلت بين أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ولبنان والإمارات، كما واظب على المشاركة في جميع المعارض الجماعية داخل البلاد وخارجها ولا سيما التي أقيمت بالتعريف بالفن السوري.

الجانب الآخر من إبداع المدرّس تجلّى في الأدب فترك لنا ديوانين شعريين مشتركين «القمر الشرقي على شاطئ الغرب» مع شريف خرندار و»الزمن السيئ» مع حسين راجي ومجموعة قصصيّة بعنوان «عود النعنع» وأنتجت له المؤسسة العامة للسينما مجموعة من قصصه في فيلم واحد حمل اسم «العار» سنة 1974 وتناول معاناة أبناء الريف السوري في زمن الإقطاع.

(سانا)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى