أولى

حال وحدة العرب في زمننا: معالم تراجع ومؤشرات نهوض وتقدّم

 د. عصام نعمان*

لمناسبة حدثين أليمَيْن: الذكرى الستون لانفصام الجمهورية العربية المتحدة التي ضمّت مصر وسورية، والذكرى الحادية والخمسون لرحيل القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر.

ولمناسبة حدثين بهيجَين: الذكرى التاسعة والثلاثون لانطلاق المقاومة وتحرير بيروت من الاحتلال الصهيوني، والذكرى الحادية والعشرون لانطلاق انتفاضة الأقصى.

طَلَب المنتدى القومي العربي في بيروت إلى مؤسسه المفكر والقيادي المناضل معن بشور أن يتوجّه إلى الجمهور العربي برؤيته إلى حال العرب ومطلب الوحدة الآن، كما طَلَب إليّ أن أقدّم للموضوع بكلمات تؤشر لكنها لا تُغني بالتأكيد عن التفكير بعمق في الواقعات والتطورات والاحتمالات التي سيستشرّف بها حال الوحدة في زمننا المعاصر هذا المفكر والقيادي المناضل في سبيلها.

من جهتي أرى أنّ ثمة معالم خمسة لحال العرب في زمننا المعاصر تنعكس بآثارها ومفاعيلها على مسألة الوحدة في الحاضر وتُسهم في تعزيز أو إعاقة القوى السياسية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتفاعلة في بيئات الأمة.

أولُ المعالم تداعي قدرة الولايات المتحدة الردعية إقليمياً بعد خروجها المهين من أفغانستان، لا سيما في منطقة غرب آسيا الممتدة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط غرباً إلى شواطئ بحر قزوين شرقاً. أجل، لم يعد في مقدور الولايات المتحدة كقوة معادية للوحدة العربية أن تتحكم في تشكيل علاقات القوى في حاضر دول هذه المنطقة ومستقبلها المنظور. صحيح أنها ستبقى بلا شك قوة مؤثرة وصاحبة نفوذ في ساحات إقليمية عدّة، لكنها لم تعد قوة آمرة وصانعة مصائر كما كانت في ماضٍ قريب.

ثاني المعالم أن الولايات المتحدة لم تعد مهتمة بحماية الدول المنتجة للنفط في المنطقة، لا سيما في الخليج بسبب عامل مستجد وغالب هو أنها أصبحت هي نفسها أكبر دولة منتجة للنفط في العالم بعد نجاحها في تقليص تكلفة استخراج النفط الصخري البالغ الوفرة لديها. لذلك أصبحت الولايات المتحدة مهتمة بتسويق إنتاجها من النفط وبالتالي المنافس الأول لكلّ الدول المنتجة للنفط، ومنها بطبيعة الحال دول الخليج. هذا لا يعني البتة تخليها عن دول الخليج كحلفاء إقليميين وذلك لدوافع استراتيجية من جهة ومن جهة أخرى لكونها أسواقاً متطلّبة ومستهلكة لمنتجاتها في شتى الحقول. لذا تسعى الولايات المتحدة إلى إقامة تحالفات في ما بين دول الخليج، كما بينها وبين الكيان الصهيوني من حيث أن هذا الأخير بات في مخططاتها الاستراتيجية بديلها الأمني المساعد إقليمياً وإن في حدود ضيقة.

ثالثُ المعالم أن الولايات المتحدة ليست وحدها مَن تداعت قدرته الردعية إقليمياً بل «إسرائيل» أيضاً. ليس أدلّ على ذلك من سلوكية الكيان الصهيوني بعد حرب 2006 التي أبرزت قوة حزب الله الردعية وقدرته على فرض قواعد اشتباك صارمة على دولة العدو والحدّ تالياً، إن لم يكن تعطيل، نشاط ذراعها العسكرية في الساحة اللبنانية.

رابعُ المعالم صعود إيران عسكرياً وتكنولوجياً ما أدّى إلى امتلاكها قدرة ردعية مكّنتها من تعطيل مخططات أميركا العدائية ضدها، وكذلك مخططات «إسرائيل». وليس أدل على ذلك من سياسة الرئيس الأميركي جو بايدن المناقضة لسياسة سلفه دونالد ترامب والمتجلية بالعودة إلى مفاوضة إيران في فيينا بغية التفاهم على أسس العودة إلى الاتفاق النووي.

خامسُ المعالم غياب دولة إقليمية مركزية قوية لدى العرب في غرب آسيا. كان ثمة دولة بهذه الصفة والقدرة والدور في زمن عبد الناصر. لكن مصر عبد الفتاح السيسي ما زالت بعيدة عن امتلاك هذه المزايا في الوقت الحاضر. غير أن ثمة ظاهرة صاعدة جديرة بالاهتمام والمتابعة والرهان عليها في حاضر منطقة غرب آسيا. إنها ظاهرة صعود قوى المقاومة في فلسطين المحتلة (لا سيما في قطاع غزة) كما في لبنان خصوصاً وكذلك في سورية والعراق. صحيح أن هذه القوى تدعمها إيران، وهي قوة غير عربية، لكن قوى المقاومة حريصة على التمسك بهويتها العروبية واستقلاليتها التنظيمية والسياسية وإن كانت تلتقي وتتعاون مع إيران في مواجهة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.

ولعل من أبلغ مؤشرات النهوض والتقدّم على صعيد مقاومة الكيان الصهيوني في عالم العرب ما بات يُفصح عنه بصراحة ذات دلالة بعض أركان الدولة العميقة في الولايات المتحدة. ها هو مدير مكتب كولن باول، وزير الخارجية الأميركي السابق، العقيد المتعاقد بوريس ويلكرسون يقول بلا مواربة إنّ الكيان الصهيوني بات عبئاً استراتيجياً على الولايات المتحدة الأميركية، وأن عمر هذا الكيان لن يتجاوز عشرينات هذا القرن».

من مجمل ما تقدّم بيانه يمكن الاستخلاص بأن ثمة معالم تراجعٍ عدّة تبدّت في جبهة الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين بعد انسحابها المهين من أفغانستان. في المقابل، ثمة مؤشرات نهوض وتقدّم شتى تبدّت تباعاً في عمليات التصدي المتصاعــدة ضد الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة ولبنان وسورية. لكن لا سبيل حاليّاً إلى إطلاق حكم جازم على مآل الصراع في منطقة غرب آسيا. فالعالم برمته، وليس عالم العرب فحسب، يعيش حال مخاضٍ متعدد اللاعبين والأوجه والميادين وليس من مؤشر إلى زمن حسمٍ قريب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى