ثقافة وفنون

دور الفن والأدب في قبول الآخر…

} سارة السهيل

 في الألفية الثالثة للميلاد، باتت الحاجة ملحة الى الحرية والتحرر من ثقافة الكراهية التي غزت شعوب العالم، التحرر من عداء الآخر الى قبوله والتعايش معه، بل التزاوج بين فكرنا وفكره لصالح المجتمع الإنساني القائم على المحبة والتعاون.

 فدور الثقافة في قبول الآخر أعمّ وأشمل وأعمق، ونظرية الثقافة كما عرّفها إدوارد تايلور في كتابه (الثقافة البدائية) بأنها، «كلّ مركّب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف، وغيرها من الإمكانيات والعادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع».

من هذا المنطلق يمكننا القول، بأنّ الثقافة كمركب معرفي عام يمكنها ان تلعب دوراً رئيسياً في قبول الآخر، من خلال ما تقوم به الآداب والفنون من تهذيب للسلوك الإنساني وتعميق المشترك الإنساني وما تحققه من سموّ روحي فوق شبهات الماديات والتمييز العنصري أو الثقافي.

فمعزوفة موسيقية مبدعة تصبح قادرة على جذب أسماع جموع غفيرة من ثقافات إنسانية متعددة تحلّق بهم في سماء الحرية المنشودة وفردوس السلام العالمي، وتشكل لوحة تشكيلية ترسم بالكلمات آلاف المعاني التي يحتاجها البشر لإيقاظ ضمائرهم وتطهيرهم من الداخل، ونص روائي قد يعبر البحار والمحيطات ليعبّر عن عذابات إنسان هذا العصر، ويحقق لكلّ من يقرأه في شرق العالم وغربه تنفيساً وجدانياً عن إحباطاته وأحلامه، حين يشعر بأنّ الهمّ الإنساني واحد، وانّ المشترك الإنساني في الأحلام والآلام واحد أيضاً.

فكلما أدركت الشعوب عبر ثقافاتها حقيقة السنن الكونية التي خلقها الله في عالمنا وانها قائمة على الاختلاف، وأنّ الإنسان مهيأ بفطرته للتعايش والتكيّف مع كلّ ما هو مختلف، عندها يصبح قبول الآخر أمراً سهلاً وليّناً وقد يحقق السعادة للجميع.

إنّ تعايش الجماعات البشرية من مختلف الأعراق واللغات والثقافات، فإنّ فرقة موسيقية من مختلف دول العالم ومن مختلف الأديان، تجدهم يجتمعون لإنجاز العمل الموسيقي الذي يسعد الجماهير رغم أنهم مختلفون، ولكنهم مشتركون في عمل جماعي يتبادلون الودّ في ما بينهم عن طريق هذا المشترك الإنساني. كذلك في المستشفى قد نجد فريقاً من الأطباء والممرّضين ينسون ذواتهم الإنسانية الخاصة جداً وطبقتهم الاجتماعية خلال تعاونهم في إجراء عملية جراحية لأحد المرضى، وقد تفشل العملية الجراحية إذا لم يتعاونوا على ما يقومون به، وإذا لم يتحاببوا في ما بينهم.

كذلك فإنّ الأعمال الفنية الدرامية والمسرحية والسينمائية وغيرها إذا لم تكرّس قيم التسامح والعفو والحب بين بني البشر على اختلاف ثقافاتهم وأعراقهم، فإنها في المقابل تدقّ ناقوس الخطر في قلب المجتمعات، لأنها في هذه الحالة ستتحوّل الى النقيض وهو تكريس ثقافة الكراهية بحق الآخر.

لعلّ المعزوفة الروائية للكاتب الكويتي سعود السنعوسي «ساق البامبو» التي حصدت جائزة «بوكر» العربية عام 2013، تعد أنموذجاً صارخاً على سطوة المفاهيم الاجتماعية والثقافية المتحجّرة على قيم قبول الآخر، بل وإقصائه وتهميشه ونبذه داخل جذوره ووطنه فالرواية «ساق البامبو» تتحدث عن هذا «التابو» الاجتماعي بين الطبقة الثرية والخدم، وانّ التزاوج بينهم أمر يرفضه المجتمع كلية، كأنه نصّ ديني مقدس لا يجب الاقتراب منه، وخاصة اذا كان الخدم ايضاً من ثقافة أخرى.

تتحدث الرواية عن مذكرات شاب كويتي فلبيني، أمُّه فلبينية تزوَّجت من والده الكويتي، ثمَّ أعادها هي وولدها إلى بلدها الأصلي الفيلبين، وبعد سنوات عاد الشاب للبحث عن والده ووطنِه ويطالب بحقه بأن يكون كويتيّاً، لكنَّه لم يجد والده، الذي قتل أثناء الغزو العراقي للكويت، ووجد وطناً يرفضه وينبذه بسبب ملامحه الفلبينية وطبقة والدته الاجتماعية .

هذا النص الأدبي الرفيع قدّم أنموذجاً صارخاً على رفض قبول الآخر نتيجة قدسية الطبقية الاجتماعية وإعلائها فوق القيم الإنسانية المشتركة في الحب والسلام ونبذ الكراهية للآخر .

صحيح انّ الإنسان يسعى بطبعه للتمايز عن الآخرين والتفوّق عليهم، فهذه أيضاً فطرة، لكنه في المقابل لا يستطيع الانعزال عن هذا الآخر والتفاعل معه بل والاستفادة منه، باعتبار انّ الإنسان كائن اجتماعي بالأساس، وانه يستفيد في نموّه العقلي والمعرفي والوجداني بهذا التنوّع الذي يخلقه الاختلاف.

أيضاً فإنّ الإنسان بطبيعة تكوينه يسعى الى التمايز عن الآخر، وان يعيش في عالمه الافتراضي، وفي نفس الوقت هو كائن اجتماعي من حيث بنائه الفسيولوجي يسعى الى تكوين علاقات اجتماعية مع الآخر، وبدون هذا الاختلاف لا نشعر بمعاني الثراء الذي نحققه نحن والآخر، ولا نشعر بمعنى السعادة الحقيقية.

فالحياة كلها قائمة على هذا التفاعل البديع بين «الأنا» والآخر، كلما زادت جيوب المعرفة الإنسانية، فإنّ «الأنا» والآخر ينصهران معاً لصنع السعادة للبشرية، ففي علاقة المحبة للطبيعة نحافظ على البيئة وجمالها ونتمتع بعبير أزهارها ونسائم هوائها.

في علاقتنا بأصدقائنا المختلفين في عاداتهم وتقاليدهم ومشاربهم الثقافية، توسع دائرة معرفتنا الإنسانية وتنضج تجربتنا الحياتية والوجدانية ونكون أكثر وعياً بقيَم الاختلاف الثقافي.

فالأمم والشعوب حققت نهضتها بانفتاحها على الآخر وقبوله، وهذا ما حدث في الحضارة الإسلامية التي امتدّت شرقاً وغرباً وقبلت ثقافات الشعوب الرومانية والفارسية، وهذا الانفتاح والقبول هو الذي مكنها من حركة الترجمة العظيمة التي نقلت بها علوم الرياضيات والفنون والآداب والفلسفة اليونانية القديمة، وهضمتها وبنت عليها الحضارة الإنسانية الموسوعية.

في المقابل، فإنّ سيطرة ثقافة اللون الواحد وإلغاء الآخر وتهميشه وإقصائه، تؤدّي الى التفكك المجتمعي وانتشار العنف الطائفي او المذهبي بين أبناء الشعب الواحد، وهو ما يؤدي أيضاً الى زيادة مشاعر الكراهية بين أبناء الوطن الواحد فيتآكل من داخله وتتسرّب اليه عوامل الانهيار بل والاختفاء من الخريطة الكونية.

نعود إلى دَور الآداب والفنون، فنجد انّهما تسهمان في التقريب بين الشعوب والحضارات بما تنقله من تجارب إنسانية وفكرية مبدعة جديدة قادرة على تجديد الأفكار وتطويرها بما يناسب معطيات الزمن، وخلال أدائها هذا الدور، فإنها تنقل للعقل البشري حقيقة، انّ هذا العقل ناقص بطبعه، ومن ثم فإنه لا يملك الحقيقة كلها، وان علاج هذا النقص يتمّ بالانفتاح على عقل الآخر ليكمل نقصه ويكمل معرفة الحقيقة، وبقدر ما نحتاج الآخر ليكمل نقص معرفتنا البشرية، فإننا بالضرورة لا يمكننا ان نحتقر الآخر او نكرهه او نقصيه لأننا نحتاجه ليكمل معنا مسيرة المعرفة ورحلة الحياة.

والحقيقة انني وجدت في التصوف الاسلامي ـ إذا لم يحيد ـ أدباً إنسانياً رفيعاً يحمل في طياته قيَم قبول الآخر والحوار والتكامل معه على أرضية من الحب، فطريق الحب في الصوفية يقهر ايّ اختلاف ويذيب جمود العقول والقلوب، ما يتجلى في نصوص أحد أقطاب التصوف محيي الدين ابن عربي في أبياته الشعرية الرائعة التي يقول فيها:

لقد كنت قبلَ اليوم أُنكر صاحبي

إذا لم يكُنْ ديني إلى دينه دانى

وقَدْ صار قلبي قابلاً كل صُورةٍ

فمرعى لغزلانٍ وديـرٌ لرهبانِ

وبيتٍ لأوثانٍ وكعبـةِ طائـــفٍ

وألواحِ تـوراةٍ ومُصحفِ قُرآنِ

أُدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهـت

ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني

أعتقد أنّ هذه الأبيات البديعة، لشيخ الصوفية الأكبر محيى الدين بن عربي (المتوفى 638 هجرية) تكرّس لثقافة الحب والمحبة لتكون سلوكاً اجتماعياً وعلاجاً شافياً لمجتمعاتنا التي تعاني الكراهية ونبذ الآخر، فثقافة الحب هي التي تجعل الأحجار والجبال تنفجر منها الأنهار فتروي العطشى من الإنسان والحيوان والزرع، وهي تجبر آلام المريض وتربت على كتف المسكين وتمسح دمعة يتيم محزون، وتعين الأرامل على تحمّل مسؤولية رعاية الأيتام.

فالحب مفتاح لكلّ داء وزرعه في ثقافتنا اليومية عبر الأعمال الفنية والأدبية ضرورة للنجاة من التعصب الأعمى وأمراض الطبقية والفاشية الدينية والاجتماعية التي قلبت حياتنا جحيما، وأحالت أرضنا وسماءنا الى ساحات للاقتتال والحروب ـ وبدلاً من أن تروى الأرض بالماء لتنبت زهراً، رُويت بدماء الشهداء والأبرياء فأنبتت صبارا.

المشهد العالمي اليومي يموج بصراعات دينية وفكرية متعصبة وعنيفة، ولا سبيل للخلاص منها دون تحرير أنفسنا من أغلال الطاووس الذي يسكن في داخلنا يعمينا عن رؤية الحقيقة وطريق السعادة، وهو ما يتحقق بالحوار مع الآخر واحترام اختلافه عنا.

وكما قال الشاعر والفيلسوف جلال الدين الرومي: «تعال وكلمني ولا يهمّ من أنت، ولا إلى أيّ طريقة تنتمي ولا من هو أستاذك، تعال لنتكلم عن الله» فنتحاور بالآداب والفنون والموسيقى لنتعلم من خلالهم فنون المحبة والتسامح وقبول الآخر المختلف.

واعتقد انّ العالم بات يدرك نيران التعصب والكراهية ودماء الأبرياء ثمناً باهظاً لها، لذلك فطن الى أهمية تجربة الشاعر جلال الدين الرومي، وصار ينهل من منابع حبه وشعره وفلسفته، وأصبحت أقواله منتشرة حول العالم، بل انّ العديد من المراكز البحثية والعلمية تدرس فلسفته وحكمته.

ففي عام 2007، نظمت «اليونسكو احتفالاً خاصاً بالرومي بمناسبة مرور 800 عام على ميلاده، وجاء في إعلانه «أفكار وآمال الرومي يمكن أن تكون جزءاً من أفكار وآمال اليونسكو». وإعتبار انّ جلال الدين الرومي من أكثر الشعراء شعبيّة في الولايات المتحدة، مع الإعلان عن حصول مؤلفاته على لقب «الأعلى توزيعاً» بين كتب الشعر، فيها لثلاثة أعوام متتالية من 2004 إلى 2006، لا سيّما ديوانيْه «المثنوي» و»التبريزي».

وذاعت شهرة الرومي أكثر وأكثر بعد رواية المؤلِّفة التركية إليف شافاق، «قواعد العشق الأربعون»، التي صدرت في الولايات المتحدة عام 2010، وتناولت حياة الرومي ولقائه مع التبريزي، وقدّمت شرحاً مبسطاً لحكمته. وفي عامي 2014 و2016، أعلنت صحف أميركية عن نيل الرومي صفة الشاعر الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة.

ولعلنا ندخل ساحة العشق الإنساني بين «الأنا» والآخر في أقوال له خلدها التاريخ منها: «كم هم سعداء أولئك الذين يتخلصون من الأغلال التي اتسمت بها حياتهم» و»العشق يزهر من تلقاء نفسه بإرادة مستقلة.. فالعشق لا يمكن أن يكتسب أو يلقن».

«لا تجزع من جرحك.. وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك»؟

«استمع إلى صوت الناي… كيف يبث آلام الحنين» ويقول:

«مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحن إلى أصلي».

يا أخي أنت مجرد فكر.. وما بقي منك عظام وجلد.

ليس العاشق مسلماً أو مسيحياً.. أو جزءاً من أيّ عقيدة، فدين العشق لا مذهب لتؤمن به أو لا تؤمن، أينما كان النور فأنا الشغوف به، وأينما كانت الزهرة فأنا الفراشة، وأين كان الجمال فأنا العاشق، وأينما كانت الحكمة فهي ضالتي، فقط حين تفعل ما تمليه عليك روحك، تشعر بهذا النهر العذب يتدفق داخلك، إنها البهجة الخالصة.

ختاماً، كما انّ الدين ليس حكراً على شعب دون غيره، كذلك الفنون والآداب والعلوم ليست حكراً على شعب دون غيره، والحقيقة الكاملة لا يمتلكها أحد او جماعة دون غيرها، وانما هي قطرات من ماء المطر تشكل مع زخاتها وبمرور الوقت أنهاراً من المعرفة والتكامل والحكمة والإبداع، ويجري النهر لمسافات بعيدة وقد يشكل جداولَ ومصابات جديدة يكتشفها ويفيد منها، من يتعاون مع الآخر للعيش في سلام مشترك.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى