أولى

مأساة أوكرانيا… محرّض أميركيّ ورادع روسيّ وغباء أوروبيّ!

 د. عدنان منصور _

   منذ أن تمّ الإعلان لأول مرة عام 2015، عن إنشاء خط أنابيب للغاز من روسيا الى ألمانيا، عبر بحر البلطيق بطول 2460 كلم، والذي عُرف بـ نورد ستريم 2، وتمّ تنفيذه عام 2021، لم يترك الخط ارتياحاً لدى الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي .

 هواجس ومخاوف الولايات المتحدة جعلتها ترى في خط الغاز الروسي على أنه يعزز بكلّ قوة نفوذ روسيا، وتأثيرها العميق داخل الاتحاد الأوروبي، ويجعله أكثر ارتباطاً بموسكو. وهذا ما لا تقبل به أميركا وترضى عنه، خاصة أنّ خط الغاز سينقل 55 مليار متر مكعب، بالإضافة الى خط نورد ستريم 1، ما يجعل الكمية التي ستضخها روسيا الى ألمانيا تصل الى 110 مليارات متر مكعب، ومنها الى دول أوروبا .

  رغم كون خط الغاز خطاً اقتصادياً بحتاً، الا انّ الولايات المتحدة تعتبر انّ المشروع سيجعل القارة الأوروبية رهينة في يد روسيا، ما جعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب يفرض عقوبات على عدد من السفن والأفراد، والشركات المشاركة في المشروع الذي تديره شركة غازبروم الروسية.

علماً أنّ شركات أوروبيّة ساهمت في تمويله، كشركة شلّ الهولندية، وENG  الفرنسية، بالإضافة الى شركات نمساوية والمانية وبريطانية، إلا انّ الرئيس الأميركي جو بايدن رفع هذه العقوبات في ما بعد.

    واشنطن التي أرادت تسييس خط الغاز، توصّلت الى اتفاق مع ألمانيا، يتضمّن تعهّداً ألمانياً باتخاذ تدابير فعّالة، وعقوبات ضدّ روسيا في حال استخدام الطاقة كسلاح، أو قيامها بأعمال عدوانيّة ضدّ أوكرانيا.

 خط نورد ستريم 2 لن يمرّ في أراضي أوكرانيا، بعد أن كان الغاز الروسي يمرّ في أراضيها ومنها إلى أوروبا، والذي كان يعزّز وضعها الاقتصادي، وأهميتها الجيوسياسية. بهذا الخط الجديد ستتراجع أهمية أوكرانيا، إذ ستخسر عائدات مالية مهمة تأتي من الرسوم على مرور الغاز عبر أراضيها .

نورد ستريم 2 سيجعل أوروبا أكثر اعتماداً على روسيا، والتصاقاً بها، ويزيد من التعاون الروسي الأوروبي بشكل أوسع. من هنا رأت الولايات المتحدة، أنّ تعاون موسكو بشكل منفرد مع كلّ دولة أوروبية، يعزّز من نفوذها داخل كلّ دولة منفردة، ويخفف من حدة الوحدة الأوروبية، لتصبح علاقات روسيا بأوروبا، والتعاون معها من خلال دول منفصلة. وما التعاون الروسي الألماني الا ليصبّ في هذا الاتجاه.

  قرارات بايدن برفع العقوبات الأميركية عن الشركات العاملة في إنشاء خط نورد ستريم 2، لقيت ردود فعل عنيفة داخل الكونغرس الأميركي، إذ أنّ عدداً من الديمقراطيين والجمهوربين، رأوا انّ رفع العقوبات سيفشل الجهود الأميركية لمواجهة ما وصفوه بالعدوان الروسي في أوروبا، وأنّ بايدن قدّم هدية لبوتين ستضعف فقط نفوذ الولايات المتحدة !

كما اعتبر العضو الجمهوري مايكل ماكول خط الغاز على أنه «مشروع روسي خبيث»، يجعل أوكرانيا أكثر عرضة للعدوان الروسي، ويوفر المليارات لخزينة بوتين. فيما رأى رئيس اللجنة الألمانية لدعم العلاقات الاقتصادية مع وسط أوروبا وشرقها، أنّ العقوبات الأميركية تعتبر خارج الحدود الإقليمية، ضدّ مشاركين أوروبيين في المشروع، وهو تدخل غير مقبول في القانون الدولي».

   من جهة أخرى ترى واشنطن، انّ نورد ستريم 2، أخذ من درب الشركات الأميركيّة التي كانت تتوقع أن تزوّد أوروبا بالغاز وبسعر أعلى، فجاء نورد ستريم 2 ليعطل عليها هدفها في هذا المجال.

  من هنا كان دور واشنطن لتعطيل المشروع، وإبعاد روسيا عن أوروبا، فكانت أوكرانيا ورئيسها، الأداة الأميركية في استفزاز روسيا من خلال ممارسة سياسات أميركية ـ أوروبية ـ أوكرانية شكلت تهديداً جدياً ومباشراً للأمن القومي لروسيا، واستقرارها ومجالها الحيويّ، وجرّها الى مواجهة مباشرة مع كييف، ومن ثم تأليب القارة الأوروبية ودول العالم التي تدور في الفلك الأميركي، من خلال بروباغندا إعلامية عالمية ممنهجة واسعة النطاق، تشوّه الى حدّ بعيد، الأسباب والمبرّرات والدوافع والغايات، التي حملت روسيا على قيامها بعملياتها العسكرية الوقائية ضد أوكرانيا.

  هكذا دخلت أوكرانيا في لعبة الأمم، غير متوقعة أنها ستكون الكبش، وتدفع الثمن الغالي، وأنّ دعم أوروبا لها سيقتصر على تزويدها بالمال، والسلاح، والدعم المعنوي والإعلامي والمالي، ولن تنخرط مباشرة في القتال معها ضدّ روسيا، كما كان يتصوّر زيلينسكي ويعوّل على ذلك.

    ما أرادته واشنطن من نورد ستريم 2، وتجميد تشغيله، ومن إبعاد موسكو عن أوروبا، وإيجاد الشرخ الكبير بينهما قد تحقق. وهو بحاجة الى وقت طويل كي تلتئم الجراح .

 منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد وضع خطة مشروع مارشال الأميركي عام 1948، لإعادة تعويم اقتصادات بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، ظلت أوروبا منذ ذلك التاريخ أسيرة النفوذ الأميركي، ولم تستطع حتى اليوم، الخروج من تأثير واشنطن عليها، ونفوذها الفاعل والضاغط داخل الاتحاد الأوروبي .

  مرات كثيرة، كانت واشنطن تتخذ قراراتها الأحادية الجانب، لا سيما لجهة العقوبات التي تفرضها على الدول، حيث كانت تجبر أوروبا على الالتزام بها، دون اعتراض منها، أو تجرؤ على السير في الاتجاه المعاكس.

  واشنطن كانت تطلب وتملي، والاتحاد الأوروبي يجيب وينفذ. فرضت الولايات المتحدة عقوبات أحادية على إيران بعد أن انسحبت من الاتفاق النووي، ولوّحت بفرض العقوبات على أيّة دولة أو شركة تتعامل مع طهران، فما كان على الاتحاد الأوروبي الا أن يرضخ لأمر واشنطن ورغباتها، رغم انه لم ينسحب من الاتفاق. هكذا كان حال أوروبا أيضاً مع قانون قيصر، وقانون داماتو، وكلّ القرارات التعسّفية التي لجأت اليها الولايات المتحدة ضدّ دول وشعوب في العالم.

هذه هي الولايات المتحدة، وهذه هي أوروبا، التي تبدي «حرصها» على سيادة الدول وحريتها، وهي التي بعد ثلاثة وسبعين عاماً من مشروع مارشال، لم تستطع أن تخرج عن إرادة واشنطن وهيمنتها ونفوذها. وما يحصل اليوم في أوكرانيا، إلا نتيجة تحريض أميركي لأوروبا، بأداة أوكرانية، والزجّ بزيلينسكي في حرب مدمّرة، لن تقتصر نتائجها الكارثيّة وانعكاساتها على أوكرانيا فقط، وإنما ستؤثر أيضاً على أوروبا ووحدتها، واقتصادها، ومعيشتها. كما تطال الاقتصاد الروسيّ وطاقته، وتجارته، وعملته، وصادراته بالصميم.

 لن يخرج من حرب أوكرانيا سليماً إلا المحرّض الأميركي، الذي بقيَ بعيداً يخطط، يحرّض يوجّه ويؤجّج، فيما روسيا تكشف عن الدور الخبيث لواشنطن تجاه كلّ ما يجري، لا سيما بالنسبة الى ما زرعته على الساحة الأوكرانية، من المختبرات،

والأسلحة السامة القاتلة، البيولوجية، والبكتريولوجية .

  في حرب أوكرانيا المفروضة على روسيا، التي لجأت موسكو إليها مكرهة، من أجل تصحيح وضع خطير شاذ ومتفجّر، تكون واشنطن قد حققت عدة أهداف:

1 ـ وقف العمل في خط نورد ستريم 2، وتجميد الحصول على تصاريح التشغيل التي لم تبصر النور أصلاً منذ إتمام تنفيذه عام 2021، وقبل أن تبدأ العمليات العسكرية الروسية بسبب اعتراض أوروبي وأميركي على المشروع، رغم انّ الغاز الروسي يدخل الى أوروبا بأسعار تنافسية، وأن الطاقة المتجددة لم تشكل حتى اللحظة البديل للغاز الطبيعي، خاصة أنّ ألمانيا بدأت بالتخلي التدريجي عن الطاقة النووية، والفحم الحجري، مع العلم انّ نورد ستريم 1 و 2 يشكلان لأوروبا الأمن في مجال الطاقة، وايضاً يحققا أهداف الدول لجهة سياسة المناخ، والتخفيف من الاحتباس الحراري.

2 ـ إيجاد شرخ عميق في العلاقات الثنائية بين روسيا ومعظم دول الاتحاد الأوروبي. شرخ سيترك آثاره العميقة السلبية لفترة ليست قصيرة، بعد أن تزعزعت الثقة بشكل كبير، وولدت على الساحة الأوروبية أحقاداً وضغائن ليس من السهل تجاوزها. إذ لا تزال حتى اليوم، عملية ضمّ القرم الى روسيا، والوضع في جورجيا وما جرى فيها، ترمي بظلالها على العلاقات، وما نتج عنها من عقوبات فرضت على روسيا.

3 ـ إبعاد أوروبا عن الغاز الروسيّ، لتحلّ دول أخرى وبالذات الولايات المتحدة ولو بجزء بسيط مكان موسكو، لتزويد أوروبا بالغاز والنفط. إذ أنّ ارتفاع أسعار النفط العالميّة سيشجع الشركات الأميركية العاملة في مجال استخراج النفط الصخري، ويزيد من الإنتاج الأميركي.

4 ـ جعل أوروبا أكثر ارتباطاً بالولايات المتحدة حيث لا تتوقف واشنطن عن الترويج والحديث عن التهديد الروسي الدائم لأوروبا .

فالولايات المتحدة ستستثمر الأحداث التي جرت وتجري في أوكرانيا، كي تشدّ العصب الأوروبي نحوها، وتبيّن لدول الاتحاد الأوروبي، أنها موضع ثقة، وأنها الحامية والضامنة لأمن أوروبا، وهي المعرّضة في كل وقت ـ حسب زعم أميركا ـ للتهديد والخطر الروسيّ.

5 ـ إنّ تراجع صادرات روسيا، وأيضاً تراجع العملة الروسيّة الروبل أمام الدولار بشكل كبير، عكس سلباً على القوة الشرائيّة للمواطن الروسي، جراء التضخم الحاصل. وهذا ما تريده واشنطن، علّ الوضع المعيشي الصعب للروس يحملهم على الانتفاضة ضدّ سياسات رئيسهم بوتين.

6 ـ لم تسلم دول أوروبا من تأثيرات الحرب الأوكرانية عليها. إذ شهدت بدورها، تضخماً مضطرداً وصل الى %5.8 في منطقة اليورو، مما يؤدّي ذلك، الى زيادة في مديونية الدول وعدم استقرار الأسعار، عدا الارتفاع الكبير في أسعار الغاز والنفط التي أرهقت المواطن الأوروبي، وقلصت من قدراته الشرائيّة.

7 ـ قبل بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا، قام عدد من دول الاتحاد الأوروبي، بزيادة الإنفاق العسكريّ. وأبرز الدول فيه، ألمانيا التي خصصت 2% من ناتجها القومي للدفاع عام 2022، في حين كانت برلين تخصص خلال السنوات الماضية 2010-2020، 1,2% من إنتاجها القومي للدفاع.

  رغم «الإنجازات» التي تحققت لصالح الولايات المتحدة من الحرب في أوكرانيا، فإنّ واقعاً يطرح نفسه على الساحة الدولية بعد اليوم، وهي أنّ العدّ العكسي للأحادية القطبية الأميركية قد بدأ بالأفول، وأن تموضعاً واصطفافات جديدة وتحالفات ستنشأ، لتضع حداّ للقطبية الأميركية وهيمنتها على العالم، عسكرياً، واقتصادياً، وتجارياً، ومالياً، ونقدياً.

ما يجري في أوكرانيا درس لدول العالم، وبالذات لأوروبا التي آثرت أن تبقى في عباءة الولايات المتحدة، ورهينة لها، وهي تتحمّل تبعات سياساتها، والتي جزء منها يتعارض بشكل لا لبس فيه، مع مصالحها الوطنية والسيادية، أكان ذلك في أوروبا أو في العالم كله.

  إنه عصر جديد بدأت ترسمه القوى الصاعدة في وجه القوة الحاكمة، وإن استغرق بعض الوقت، إلا أنه سيتحقق.

*وزير الخارجيّة والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى