أولى

لبنان المقاومة المستمرّة والاتجاه نحو المستقبل…

 د. جمال زهران*

لا شك في أنّ المتابع للشأن اللبناني، يستطيع أن يصل بسهولة ويُسر للصورة الكلية التي أضحى لبنان في قلبها بعد إجراء الانتخابات البرلمانية في الخامس عشر من مايو/ أيار الماضي، حيث أجريت الانتخابات خارج لبنان وداخله بنجاح منقطع النظير وتحت سمع وبصر الرأي العام الداخلي والعالمي. وكانت مستويات ونسب التصويت تعلن أولاً بأول، حتى أغلقت صناديق الاقتراع عند الساعة السابعة مساءً، ثم بدأ الفرز، وأعلنت النتائج تباعاً بمن فاز وبمن لم يفز. ولم يعلن أحد رسمياً عن شبهة تزوير في عملية الانتخابات، وبالتالي فإنّ النتيجة النهائية هي محصلة إرادة الشعب، رغم أنّ نسبة التصويت بالمشاركة لا تتجاوز 45% تقريباً. ولكن اتجاهات التصويت خضعت بلا شك لمؤثرات كبيرة في مقدّمتها المال والطائفية والقبلية ورغم كلّ هذه الضغوط، إلا أنّ الإرادة الشعبية أكدت معنيين هما:

1 ـ أنّ جماعة المقاومة لا تزال تحظى بمكانة كبيرة لدى جمهور الشعب اللبناني، (حزب الله ـ حركة أمل ـ حلفاؤهم)، ومن ثم تأكد وجودها واستمراريتها، رغم محاولات السفارات الأجنبية إفشالها وهزيمتها ومحاصرتها، وكلّ ذلك باء بالفشل، ونجحت المقاومة بإرادة شعبية خالصة.

2 ـ لم يغيّر توليد كتلة نيابية جديدة، اتخذت لنفسها اسماً، جماعة التغيير والثورة، على حساب كلّ الجماعات والأحزاب السياسية الأخرى، وخصماً من رصيدها ومواقعها من مكانة قوى المقاومة التي تتقاسم مع خصومها مواقف عدد لا يستهان به من هؤلاء النواب في العناوين الكبرى لخيار المقاومة ولو اختلفت المقاربات في التفاصيل. وهو الأمر الذي يستلزم حواراً جدياً معها من قبل جماعة المقاومة تعزيزاً لحماية الخيارات الكبرى وحصراً لقضايا الخلاف والتفاهم على آلية إدارتها، ويمثل النائب الناصري أسامة سعد نموذجاً حياً على هذه الفرصة للفصل بين تموضع نواب في خانة الدعوة للتغيير وبين وفائهم لخيار المقاومة.

3 ـ على الرغم من الرهانات العديدة، على استحالة إجراء الانتخابات، وعدم إتمام هذا الاستحقاق بنجاح، ووصلت الرهانات إلى حتمية الفشل والذهاب إلى حالة الاحتراب والحرب الأهلية، إلا أنّ الإرادة العامة التي تولدت من إجماع السياسيين على إنجاز هذا الاستحقاق، ومن الشعب الذي ذهب بنسبة كبيرة يطلب الاستقرار والتقدّم لبلاده، والحفاظ على الدولة اللبنانية حرة مستقلة. وبالتالي فإنّ الجميع قد نجح بإنجاز هذا الاستحقاق، أياً كانت نتائج الانتخابات لدى كلّ فريق. ولذلك لا عجب أن احتفل الجميع بالنجاح، وأراه في إنجاز الاستحقاق من ناحية، ومن ناحية أخرى، وفي حفاظ كلّ طرف على مكتسباته السابقة مع تحرك طفيف هنا أو هناك، علماً انّ وجهة العمليات الانتخابية الأولى لرئيس ونائب رئيس وهيئة مكتب المجلس تقول إنّ المقاومة وحلفاءها مرتاحون الى أوضاعهم بخلاف خصومهم الذين تسرعوا في إعلان الحصول على الأغلبية.

4 ـ على الجانب الآخر، من الصورة، فقد تجلت عبقرية الشعب اللبناني، في الحفاظ على التركيبة التعددية بكلّ مكوناتها الطائفية والسياسية، والطبقية، وبكلّ انتماءاتها الصحيحة وغير الصحيحة، حسب وجهة نظر كلّ فريق، ولم يعد بإمكان أيّ طرف الانفراد الكامل بالسلطة واحتكارها، والزعم بأنه يمثل السيادة، وغيره هم المنتهكون لهذه السياسة، والطامحون في السلطة ومحاولة القفز عليها.

فتركيبة التعددية بكلّ مكوناتها، تحول دون الوقوع في السلطة المركزية وانفرادها بالسلطة وما يتولد عنها من استبداد وفساد!

وهو الوضع الحادث في الغالبية العظمى للمجتمعات العربية!

وقد كان أحد أهم أساتذتنا وهو (أ.د. حامد ربيع، رحمه الله)، يقول لنا دائماً في قاعة المحاضرات إبان المرحلة الجامعية والدراسات العليا، إنّ التجربة اللبنانية التعددية، يستهدفها الكيان الصهيوني لإفشالها، ووقوع الحرب الأهلية بين أطرافها، وهو ما حدث فعلاً، إلا أنّ المجتمع اللبناني استفاق من ذلك، وحال دون وقوعها مرة أخرى.

وتمّ تجاوز ذلك، والعودة إلى الاستقرار السياسي. حيث كان الكيان الصهيوني يستهدف إفشال التجربة اللبنانية التعددية، لإجهاض الدعوة إلى التعايش في فلسطين تحت سقف دولة واحدة، والاحتكام للشعب المقيم داخل فلسطين، لأن يقول رأيه في ذلك، وفيمن يتولى السلطة، فتسقط الدولة الصهيونية ومزاعمها.

ورغم تقوّلات بعض القوى السياسية، على قوى المقاومة وحلفائها، إلا أنّ الأخيرة أثبتت قوتها ووجودها السياسي، من خلال الاجتماع على انتخاب رئيس مجلس النواب (بري) بأغلبية (65) صوتاً من إجمالي (128) نائباً، وكذلك الاجتماع على انتخاب نائب الرئيس بالأغلبية نفسها (65) صوتاً، مقابل (61) للطرف الآخر مجتمعاً، وتخلف اثنين فقط!

تلك هي الصورة الإجمالية، لانتخابات البرلمان اللبناني بنجاح، وإنجاز استحقاق رغم الرهان على إفشاله، ليتأكد الوجود السياسي، لقوى المقاومة والتغيير، في مواجهة المشروع الصهيوني الأميركي، الحليف مع الرجعية العربية، الذي سقط بامتياز في هذه الانتخابات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى