أولى

بين دبلوماسية القوة ودبلوماسية الضعف والركون لوعود عدوّ ووسيط منحاز له

} حسن حردان

يجري النقاش مرة جديدة، مع الأسف الشديد، حول أيّ خيار يجب أن يعتمد لبنان في التفاوض غير المباشر مع كيان العدو الصهيوني، وعبر وسيط أميركي معروف بصهيونيته وانحيازه إلى جانب العدو.. هل يعتمد لبنان دبلوماسية الضعف، التي تراهن على حسن نوايا الوسيط الأميركي والركون إلى عدو اشتهر بخداعه ومناوراته ومماطلته وسعيه إلى اقتناص الفرص لتحقيق أطماعه، أم يجب أن يعتمد لبنان دبلوماسية القوة المستندة إلى قوة مقاومته ومعادلتها الذهبية، الجيش والشعب والمقاومة، التي أثبتت جدواها في التصدّي للاعتداءات الصهيونية وتحرير الأرض وردع العدوانية والأطماع الصهيونية

هذا النقاش طرح مجدّداً بعد قيام المقاومة بعملية استطلاعية بوساطة ثلاثة طائرات مُسيّرة حلقت فوق حقل كاريش النفطي المتنازع عليه بين لبنان وفلسطين المحتلة.. وإعلان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ووزير الخارجية عبد الله بو حبيب الاعتراض على العملية والقول إنها تؤثر سلباً على المفاوضات، وهو نفس الموقف الذي أعلنه الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين..الذي قال إنّ عملية المُسيّرات تلحق الضرر بالمفاوضات…!

من البديهي أنّ ايّ بلد يدخل في مفاوضات لانتزاع حقوقه، لا يمكن له ان يحقق أهدافه اذا لم يكن يملك أوراق قوة تجعل العدو مجبراً على التسليم بمطالبه المحقة، أما إذا كان لا يملك ايّ أوراق قوة، أو يتخلى عن أوراق القوة التي بحوزته، فمن الطبيعي ان يكون موقفه في المفاوضات ضعيفاً مما يمكن العدو من استغلال هذا الضعف لفرض شروطه في المفاوضات.. فكيف اذا كان الوسيط الذي يتولى عملية التفاوض بين الجانبين منحازاً ايضاً بالكامل إلى جانب العدو ويعمل على تسويق مطالبه ووجهة نظره، بل ويمارس الضغوط على الطرف الآخر لجعله يرضخ لشروطه..

التجارب مع العدو الصهيوني، ومع الولايات المتحدة في مجال المفاوضات تؤكد على هذه الخلاص.:

في هذا السياق يمكن التوقف عند أربعة نماذج من هذه التجارب الدالة على دبلوماسية القوة ودبلوماسية الضعف والركون لوعود العدو..

أولاً، مفاوضات اتفاق 17 أيار الذي وقع عام 1983 بين لبنان وكيان العدو اثر مفاوضات مباشرة في ظلّ الاحتلال الصهيوني للبنان، حيث فرض العدو شروطه السياسية والأمنية في هذا الاتفاق ورضخ الجانب اللبناني الرسمي لها تحت ذريعة أنّ لبنان مغلوب على أمره ولا يمكن له ان يحصل على اتفاق أفضل مقابل انسحاب قوات الاحتلالومعروف أنّ هذا الاتفاق جرى إسقاطه بفعل مقاومة الشعب اللبناني التي أجبرت العدو في نهاية المطاف في 25 أيار من عام 2000 على الرحيل عن معظم الأراضي اللبنانية، في الجنوب والبقاع الغربي، دون قيد ولا شرط او ايّ ثمن مقابل

ثانياً، المفاوضات غير المباشرة التي جرت بين لبنان وكيان العدو اثر انتصار المقاومة عام 2000، حيث نجح المفاوض اللبناني في تثبيت حقوق لبنان في أرضه ومياهه ورفض التسليم للعدو بالتخلي عن أيّ مع هذه الحقوق، وطبعاً هذا النجاح للمفاوض اللبناني استند إلى قوة الحق والأهمّ إلى قوة المقاومة المنتصرة بعد نضال شاق وطويل دام 22 عاماً ضدّ الاحتلال الصهيوني..

ثالثاً: مفاوضات اتفاق غزة أريحا بين منظمة التحرير الفلسطينية وكيان العدو الصهيوني، والتي حقق من خلالها العدو كلّ ما يحلم به من اعتراف بشرعية احتلاله للأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948 وتخلي المنظمة عن المقاومة المسلحة ووقف الانتفاضة الفلسطينية مقابل حكم ذاتي محدود في غزة وبعض مناطق الضفة الغربية، ووعد «إسرائيلي» أميركي بأن تنتهي المفاوضات بإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية.. لكن هذا الوعد «الإسرائيلي» الأميركي لم يتحقق وقد مرّ عليه نحو ثلاثة عقود، حيث عمل الاحتلال خلالها على المماطلة والتسويف وتكريس واقع احتلاله واستيطانه لمنع إقامة دولة فلسطينية، وكانت النتيجة أن منظمة التحرير سلمت بمطالب العدو وشروطه دون أن تحصل على ايّ شيء مما وعدت بهوكلّ ذلك لأنها تخلت عن أوراق قوّتها والتمسك بالحقوق وركنت لوعود للعدو الغاصب للأرض والراعي الأميركي غير النزيه

رابعاً: المفاوضات بين الولايات المتحدة وقيادة الثورة الفيتنامية، التي جرت في باريس، حيث رفض المفاوض الفيتنامي التوقف عن مواصلة المقاومة المسلحة ضدّ قوات الاحتلال الأميركي حتى آخر لحظة من المفاوضات التي انتهت بإجبار القوات الأميركية على الرحيل عن أراضي فيتنام الجنوبية تحت نار المقاومة بلا قيد ولا شرط

هذه نماذج عن نتائج دبلوماسية التفاوض مع الاحتلال «الإسرائيلي» والأميركي التي تظهر كيف أنّ امتلاك عناصر القوة خلال المفاوضات تشكل شرطاً من شروط تعزيز قوة المفاوض وفرض شروطه، في حين انه عندما جرى التخلي عن عناصر القوة كانت النتائج لصالح المحتلّ

ويمكن أيضاً لفت النظر الى المفاوضات غير المباشرة التي جرت بين المقاومة وكيان العدو الصهيوني حول شروط تبادل الأسرى وكيف نجحت المقاومة في تحقيق أفضل الشروط في صفقات التبادل والتي شكلت انتصارات إضافية لخيار المقاومة القوية والمنتصرة

أليس بعد هذه التجارب، وغيرها الكثير طبعاً، ما يبرهن ويؤكد على أهمية امتلاك كلّ ما يمكن من عناصر وعوامل القوة، وعدم التخلي عنها، التي تمكن المفاوض اللبناني من انتزاع حقوق لبنان في مياهه الإقليمية الخالصة وتمنع العدو من التطاول عليها او سرقتها.. انّ الركون للأميركي كوسيط، أو عدم الاستفادة من قوة المقاومة كمن يراهن مسبقاً على صدق الأميركي وحسن نية العدو «الإسرائيلي»، خصوصاً أنّ العدو ومعه حليفه الأميركي ما كانا ليدخلا في مفاوضات مع لبنان حول ترسيم الحدود البحرية، ويعطيانه كلّ هذا الاهتمام لولا وجود مقاومة لديه تملك مقدرات القوة والردع التي يُحسب لها العدو الصهيوني ألف حساب

لهذا كفى رهانات خائبة وخاسرة على أعداء لبنان، لا سيما أنّ الأميركي، الذي يدّعي انه وسيط، يمارس شتى أنواع الضغوط الاقتصادية والمالية والحصار على لبنان ومن ضمنه منع وصول الكهرباء من الأردن والغاز من مصر، وكذلك منع الشركات الأجنبية من التنقيب في الحقول اللبنانية، وكلّ ذلك بهدف إجبار لبنان على التخلي عن حقوقه والخضوع والاستسلام للشروط الأميركية «الإسرائيلية»… بعد كلّ ذلك هل من عاقل يقتنع أنه يمكن الركون لوعود الأميركي، عدا طبعاً عن «الإسرائيلي» المعروف بعدوانيته وأطماعهويتخلى عن عناصر قوته التي تضمن له ردع العدو وانتزاع حقوق لبنان في مياهه الإقليمية الخالصة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى