نقاط على الحروف

أربعون ربيعاً: هل يحمل حزب الله مسؤوليّة احتكار المقاومة؟

 ناصر قنديل

خلافاً لما هو سائد في الكثير من التحليلات والمواقف، فإن ما جرى عام 1990 هو أن أغلبية كاسحة من الطاقة اللبنانيّة التي كانت منخرطة في مقاومة الاحتلال، وقد أسهمت في صناعة المعادلة السياسية والاجتماعية الداخلية، التي تحولت منذ انتفاضة 6 شباط 1984 الى توازن إيجابي لصالح خيار المقاومة، وأنتجت إسقاط اتفاق 17 أيار وإعادة النظر بموقع السلطة السياسية الحاكمة من مقاومة الاحتلال، الذي كانت إحدى رمزيات تعبيراته الاستجابة لإصرار الرئيس نبيه بري، الذي شغل منصب وزير العدل والموارد المائية والكهربائية، على إضافة وزارة دولة لشؤون الجنوب، من مهامها مساندة ودعم مقاومة الشعب اللبناني للاحتلال، قد جرى اجتذابها بعيداً عن فكرة المقاومة، سواء عبر الإيحاء بأن اتفاق الطائف الذي نقل صلاحيات رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء مجتمعاً، وجاء بقائد وطني موثوق للجيش، سيجعل الدولة في موقع مسؤولية مواصلة مهام التحرير، خصوصاً أن اتفاق الطائف قد وضع في عهدة الدولة السورية كراعٍ مباشر، وهي القوة التي كانت السند للنهوض بالمقاومة، والحاضن لكل تشكيلات المعارضة الوطنية التي تصدت لاتفاق 17 أيار، وسورية نفسها لم تكن بعيدة عن محاولات اجتذابها إلى خارج مشروع المقاومة، من خلال إطلاق مؤتمر مدريد والمفاوضات التي تفرّعت عنه وتواصلت حتى التحرير عام 2000، وما استهدفته المفاوضات من تفريق الصفوف التي التقت منذ العام 1982 على أولويّة المقاومة حول رهانات سيطر على أغلبها الاعتقاد بأن مسار التفاوض يرجح بلوغه نقطة تسوية إقليمية تكون استعادة جنوب لبنان جزءاً من مترتباتها.

خلال العقد الممتد بين العامين 1990 و2000 وقع لبنان تحت تأثير هذا المنخفض الشديد البرودة، وغادرت شرائح الشباب اللبناني موقع المقاومة إلى الانخراط في حياة طبيعية وفّرها السلم الأهلي بعد خمس عشرة سنة من الحرب الأهلية، وانخرطت أحزاب وقيادات وطنية في لعبة السلطة، وبقي حزب الله وشباب حزب الله وحدهم في ساحة المقاومة. وهذا هو السبب الرئيسي لما يحاول البعض تسميته احتكار المقاومة، بسبب يقينهم بأن العملية التي انطلقت من مدريد لن يصل القطار الذي أطلقته إلى المحطة النهائيّة، وبأن المقاومة ستبقى الطريق الوحيد لاستعادة الأرض وليس لتعزيز أوراق التفاوض، ولذلك عضّ حزب الله على الجراح في كل الاستفزازات التي تعرّض لها لتحويل قراءته المختلفة إلى سبب لخوض الحروب التي تمزق الصف الواحد، سواء في حادثة فتح الله مع الجيش السوريّ، أو في إطلاق النار على مسيرته ضد اتفاقية أوسلو تحت جسر مطار بيروت، وفي حسابه أن الدولة السورية وأغلب الدولة اللبنانية ستكتشفان الطريق المسدود للرهان التفاوضي وتعود مياه العلاقات الى مجاريها. وفي قلب هذا الخيار، انخرط شباب حزب الله في بنى وهياكل المقاومة تاركين الفرص التي فتحت أمامهم كما أبناء جيلهم، لعيش حياة طبيعيّة، وقدموا خلال هذا العقد لترجمة هذه السباحة عكس التيار مئات الشهداء.

عندما تغيّرت المعطيات الإقليمية والداخلية، بتتابع الأحداث بين عامي 1994، مع اغتيال رئيس وزراء كيان الاحتلال اسحق رابين، و1996، مع عدوان نيسان على لبنان، وبدأت ملامح التبدل تظهر في الحسابات عند الذين بنوا رهانات على مسار المفاوضات، كان أغلب الذين شاركوا قبل عام 1990 في أعمال المقاومة، قد فككوا بناهم وهياكلهم، وقد فقدوا النواة الشبابيّة التي كانت تنمو وتكبر قبل عام 1990، وكان أغلب الشباب المؤمن بالمقاومة قد توجّه نحو حزب الله، الذي نجح في إيجاد أطر رديفة تفتح للذين يريدون الحفاظ على تميّزهم الفكريّ أو الطائفيّ ضمن تركيبة مشروع المقاومة، وهذا ما عبر عنه نمو هائل في تجربة سرايا المقاومة حينها، بينما باتت العودة الى المواقع السابقة تبدو مستحيلة، خصوصاً أن الذين يعرفون تجارب المقاومة يدركون أنها عمل تراكمي يزداد شدّة وقسوة كلما مر به الزمن، ولا يمكن معها تطبيق قواعد لعبة شطرنج انتهت جولة منها وأعيد رصف الحجارة كما كانت في بداية الجولة، فما تمّ تدميره لن تكون متاحة إعادة بنائه.

الحقيقة التي يجب على كل الذين عايشوا تجربة المقاومة، وواكبوا مسيرتها عن قرب منذ بداياتها حتى اليوم، أن يشهدوا بها، هي أن حزب الله تحمّل مسؤولية الحفاظ على شعلة المقاومة، عندما كان بمستطاع الحزب أن ينتقل الى مواقع الانتظار لنتائج المتغيّرات، كما فعلت الأحزاب الأخرى، وأن شبابه انصرفوا لبناء جيش صغير سيكبر يوماً بعد يوم، ويصير مصدر حماية لبنان بعد تحرير الأرض، ويشكل معادلة رادعة تقف اليوم لتحرير ثروات النفط والغاز بكل جدارة وكفاءة، في مواجهة أقوى جيش في المنطقة، وخامس جيوش العالم، بينما كان بمستطاع هؤلاء الشباب أن يلاقوا فرص الحياة التي فتحت لهم كما لأبناء جيلهم بعد نهاية الحرب الأهليّة، ليصير بعضهم رجال أعمال أو مدراء عامين فاختاروا أن يكونوا شهداء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى