ثقافة وفنون

«دكّان التحف»… تُخرج مسرح الطفل السوريّ من حديقة الحيوان

زينب ديب*

إنها واحدة من المرّات القليلة في مسرح الطفل السوريّ التي يخرج فيها المؤلّف والمخرج من عقدة الثعلب والسلحفاة والأرنب، والتي أصبحت ممجوجة ومملّة نتيجة للتكرار والاستسهال وباب الرزق في كثير من الأحيان. فقد خرج جمال نصّار عن ركب السهل والسريع، وذهب متنكّباً عبء عمل صعب ليُخرج مسرحيّة للصغار يؤدّيها الكبار، وقد فعلها بروح المسؤوليّة العالية.

وعن نصّ للروائيّ والكاتب المسرحيّ السوريّ محمد حسن الحفريّ (دكّان التُّحف) أخرج جمال نصّار تحفة مسرحيّة لا بدّ أنّ كلّ مَن حضر عرضها قد أحسّ بتفاعل الأطفال مع شخوصها لدرجة أنّ كثيراً من الأطفال شاركوا في الحوار بعفويّة لافتة بعد أن استطاع المخرج إدخالهم فيها وكأنّ كلّ واحد منهم بطل من أبطالها.

بخيط تعليميّ توجيهيّ يكاد لا يُرى ربطت المسرحيّة جمهور الأطفال بها وسحبتهم دفعة واحدة إلى الخشبة، وقوفاً وتصفيقاً وغناء وتعليقاً. وبأسلوبيّة عالية أقنع النصّ جمهور الكبار، الذي تتوضّح له التعليميّة، بالطريقة التي قُدّمت بها هذه التعليميّة عبر خطاب مسرحيّ ممتع. فاجتمعت أسلوبيّة النصّ بإبداع الإخراج وحرفيّته الواضحة.

حمل الفنّان السوريّ علي القاسم بكثير من الإيثار زملاءه في العرض، هزار سليمان ونهاد عاصي والشاب المتميّز عابد زينو، فلم يجتحِ الخشبة وهو المحترف العارف كيف يؤكل العمل كلّه، وإنّما مدّ أجنحة خبرته لزملائه كي يحلّقوا جميعاً. وهذا بالذات ما يحتاجه المسرح السوريّ الذي غلبت عليه الفردانيّة والتنمّر النجوميّ فاختُصر مسرحٌ عريق بأفراد جعلوا منه حكراً مدرسيّاً تتهاوى حيطانه في كثير من إنتاجه ومفاصله.

كان عابد زينو نجماً فتيّاً تألّق متفاعلاً مع النجمة هزار سليمان ومنيراً بأمّه في العمل نهاد عاصي، وقد بلور ضوءه علي القاسم، فأعطاه أناة وهدوءاً على الخشبة، وهو السريع اللفظ النشيط الحركة.

أمّا هزار سليمان فقد أوقدت نفسها ممثّلة خبيرة لم يبدُ عليها التمثيل على الخشبة، بل كانت بكامل وجودها الشخصيّة الزوجة الشريكة في دكّان التحف.

وبظهورها المتقطّع استطاعت نهاد عاصي أن تتواجد على الخشبة في كامل مدّة العرض، وقد فرضت منذ الدقيقة الأولى لظهورها على الخشبة إلغاء غيابها في كثير من المشاهد التي يفرضها العرض.

كلّ هذا الانسجام استطاع جمال نصّار أن يخيطه بخفاء وسلاسة مع الممثّلين والفنّيين، فقد كانت الإضاءة التي هندسها الفنّان بسّام حميدي، والديكور الذي صمّمته الفنّانة ريم الماغوط، والموسيقا التي ألّفها الفنّان أيمن زرقان، ثالوث إشراقيّ جمعه المخرج لتخرج الحكمة من العمل متماسكة صلدة، فيظنّ المشاهد أن ليس من الممكن خروجها إلاّ بهذه الحُلّة.

(دكّان التُّحف) نموذج مسرحيّ حرّيف قدّمه جمال نصّار من دون ادّعاء ولا تكلّف ولا بروباغندا نجوميّة تبهر السطح من روّاد المسرح لا الأعماق، فكان تحفة بنائيّة ركّزت على بناء الإنسان صدقاً ووفاء وتربية.

يؤكّد المسرح القوميّ في سورية حضوره وفاعليّته عبر تبنّيه ودعمه مثل هذه الأعمال المميّزة في وقت أصبح فيه مسرح الطفل عموماً تجارة رائجة وعلاقات عامّة لكثير من المشتغلين فيه. وبهذه المسرحيّة التي أنتجتها مديرية المسارح والموسيقى وقُدّمت على خشبة مسرح عريق هو مسرح القبّاني في دمشق، يؤكّد المسرح القوميّ مجدّداً مسؤوليّته تجاه الأطفال واليافعين بتقديم مسرح جادّ، وأنّه الضابط لإيقاع الفنّ المتميّز رغم كلّ فوضى الاستهلاك.

*كاتبة وفنّانة سوريّة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى