أولى

التعليق السياسي

عندما تصبح الأم «أمة»

في تاريخ طويل من حرب التحرّر والتحرير التي تخوضها الأمة وشعوبها سجلت ظواهر استثنائيّة لدرجة التماهي والذوبان بين أشخاص لعبوا أدواراً محوريّة في الصراع، وقضيّة الصراع بذاتها، وتحوّلوا إلى أيقونات في هذا الصراع. وغالباً ما كانت فلسطين كعنوان للصراع هي الساحة التي تلد هذه الظواهر.

في تاريخ المقاومة في لبنان وفلسطين خصوصاً ظاهرة اسمها أمهات الشهداء، حيث تتحوّل الأم بما تمثّل من مخزون عاطفيّ، من هدف في الحرب النفسية التي يُقتل فيها الأبناء، ليخرج البكاء والتفجع على الخسارة، ويسهم بتظهير عواقب خيار المقاومة، والدعوة للانفكاك من حوله، فجاءت هذه الظاهرة المعاكسة، حيث تستقبل الأمهات جثامين أولادهن الشهداء بالزغاريد، وتُظهرن الصبر والتسليم، وتتحوّل بعضهن بفعل ثقافة مميّزة إلى داعيات للمقاومة، وراعيات لأمهات الشهداء، وهو الدور الذي أدّته في المقاومة اللبنانية بصورة مذهلة ومعبّرة الحاجة أم عماد مغنية، التي سُمّيت أم الشهداء، سواء لاحتضان شهادة أولادها الثلاثة، وحفيدها، او لموقع الأمومة الاختيارية الذي صار عنواناً لبقية حياتها قبل الرحيل في رعاية أمهات الشهداء.

الطابع الدراميّ الصارخ والمتفجّر عاطفياً لشهادة البطل الفلسطينيّ إبراهيم النابلسي، وما رافقه من مواقف عالية السقوف الأخلاقية والفكرية صادرة عن شاب يافع بمثل سنه، جعل من أمه التي خاطبها في وصيته، ناطقاً رسمياً بلسان شهادته، وجاءت كل كلمة قالتها أم إبراهيم بمثابة استمرار لوظيفة الشهادة التي اختارها ولدها إبراهيم. فقدّمت بتلقائية وعفوية وثقافة ورفعة وحضور مذهل بعمقه ووضوحه، نصوصاً تصلح أن تدرس لمن يريد فهم ظاهرة المقاومة، وأن تتحوّل دروساً لمن يريد للمقاومة أن تنمو.

يسهل النظر الى أم إبراهيم بصفتها الأمة تتكلم عن أولادها الشهداء، أكثر مما يمكن تقبل أن كلاماً بهذا التدفق والوضوح والحسم والتماهي بين الخاص والعام، إلى درجة تضيع معها فجيعة خسارة الإبن، ويحل مكانها خطاب الاستنهاض القياديّ لمواصلة المسيرة، في لحظة سخونة الدم، بما يستحيل معه الحديث عن التحكم والسيطرة العقلية، فالموقف لا يحتمل إلا العفوية الصادقة، ومتى تصبح العفوية التلقائيّة في لحظة الفجيعة على هذه الدرجة من الوظيفة الاستنهاضيّة المدروسة، وتقدم صورة عن درجة التماهي والذوبان في القضية، يكون الصراع قد بلغ درجة النضج التاريخيّ، حيث تصير الأم أمة.

أم إبراهيم النابلسي لم تعُد أماً بعدما صارت «أمة».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى