أولى

التنين الصيني عندما يلعب الشطرنج…

محمد إبراهيم

في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى يتحدث بريجينسكي بأنه: «يجب على اللاعبين العالميين الأميركيين التفكير بعدة نقلات مسبقة مع توقع الخطوات المضادة».

توقع الاستراتيجيون الأميركيون في السابق بأنّ احتواء الصين سيتمّ عبر عدة طرق، الطريق الأول يكون بفكّ ارتباطها الإيدولوجي مع الاتحاد السوفياتي السابق عبر خلق أزمات بين البلدين، والطريق الثاني بفتح باب الاندماج الاقتصادي للصين ضمن النظام العالمي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، والطريق الثالث عبر مجموعة من الشراكات الاقتصادية الأميركية مع دول محيط الصين تمنع الصين من التمدّد إلى هذه الدول اقتصادياً وتمنح هذه الدول مناعة اقتصادية بوجه التغوّل والتمدّد الاقتصادي الصيني.

على هذا الأساس كان التركيز الأميركي على منطقة غرب آسيا في محاولة لإبقاء هذه المنطقة في حالة احتواء ومنع تمرّد قواها في وجه الهيمنة الأميركية، وقد استفاق الأميركيون مؤخراً أنّ تركيزهم على غرب آسيا قد أوجد ثغرة خطيرة بالنسبة لهم في شرقها، وحسب ما تحدث عنه صانعو السياسة الأميركية أنّ الشرق الأوسط أخّرهم عن تحديث استراتيجيتهم في شرق آسيا لمدة عقدين من الزمن، لذا بدأ الحديث عندهم عن أنّ القرن الواحد والعشرين هو قرن الهادئ، وبدأ معه تعزيز وجودهم العسكري في المحيط الهادئ، ونقلوا 60% من قواتهم البحرية الى محيط الصين، وأعادوا تعزيز وتفعيل شراكاتهم الاقتصادية والتجارية مع دول شرق آسيا.

هذه الاستفاقة الأميركية المتأخرة جعلت من الإدارة الأميركية تتخذ خطوات متسرّعة وغير مجدية بالنسبة لمحاولة إعادة الإمساك بخيوط اللعبة هناك، فالاقتصاد الصيني أصبح مركز جذب لكلّ اقتصادات الجوار القريب، والاستثمارات الصينية غزت دول شرق آسيا بشكل أصبحت هذه الاستثمارات عامل أساسي في النمو الاقتصادي لها، وضمن عامل المنافسة الاقتصادية مع الإمكانيات الضخمة للتمويل الصيني لم يعد بإمكان الولايات المتحدة الدخول في هذه اللعبة لأنها في الأصل لا تريد وصول هذه الدول إلى أن تكون دول منتجة بل إبقاؤها بمثابة أسواق استهلاكية ونامية بحاجة للولايات المتحدة لإبقاء أنظمتها في حالة من الاستقرار، عدا عن عدم القدرة لتمويل استثمارات موازية للإستمارات الصينية.

عامل الوقت دفع الأميركي إلى تنفيذ نقلات غير موفقة:

يعبّر محللو السياسة الأميركية أنّ المنافسة مع الصين قد أصبحت يومية، بمعنى أنه لم يعد هناك خطط أميركية ممكنة التنفيذ على المدى الطويل أيّ أنه بعكس ما عبّر عنه كيسينجر بخطط ذات مدى قصير ومتوسط وطويلة المدى.

ذهب الأميركيون إلى تعزيز تحالفاتهم الأمنية والعسكرية لمواجهة التحدي الصيني وصياغة جديدة لتحالفات إقليمية ودولية معادية للصين ضمّت دولاً كـ أستراليا وبريطانيا واليابان والهند وكوريا الجنوبية ما بين تحالف العيون الخمسة وأوكوس.

يبقى العامل التايواني الركن الأساسي في الحركة الأميركية الجيوستراتيجية ما بين الولايات المتحدة والصين، فبقاء تايوان تحت العباءة الأميركية بمثابة حاجز أمام الاندفاعة الصينية نحو المحيط الهادئ ونحو دول محورية للاستراتيجية الأميركية في شمال شرق الهادئ ككوريا الجنوبية، فالصين إذا استحوذت على تايوان وضمّتها ستكون قد حطمت السدادة الأميركية المانعة بوجه توسعها في محيطها المباشر بحيث يصبح مضيق تايوان أولاً ضمن المياه الإقليمية الصينية وستتوسع تلقائياً مساحة مياهها الاقتصادية فتصبح مطالبتها وخطوطها التسعة في بحر الصين الجنوبي أكثر قانونية، وتصبح فكفكة سلسلة القواعد العسكرية الأميركية وحلفائها الممتدة من أوكيناوا اليابانية الى تايوان وصولاً الى بحر الصين الجنوبي أسهل، والتي يسمّيها الأميركيون سلسلة الجزر الأولى والتي من مهامها محاصرة الصين عسكرياً ومنع خروج قواتها الى البحار المفتوحة، وفي الحدّ الأدنى مراقبة حركة دخول وخروج القطع البحرية الصينية وتعدادها ونوعيتها في حالة السلم.

مع تراكم القوة الصينية بين الاقتصاد والقوة العسكرية بمختلف أصنافها وبدء الصين باستثمار متواز لهذين العاملين على مستوى التوسع في شرق آسيا انطلاقاً من الخلفية التاريخية التي تدرّس للطلاب الصينيين والتي تعود بهم في التاريخ الى عام 1840 عندما كانت الأمبراطورية الصينية تشمل جزءاً كبيراً من جنوب شرق آسيا من مضيق ملقا وصولاً الى كازاخستان بما في ذلك بورما وأجزاء من بنغلاديش والمقاطعات الروسية الجنوبية، وأنّ الحرب مع اليابان أفقدتهم تايوان، وبذلك بُني لدى الأجيال الصينية الصاعدة فكرة الحلم والمجد الصيني.

لذا فالصين أبدلت عامل التوسع الجغرافي المباشر بتوسع اقتصادي هائل، فأكبر خمس شركات في جنوب شرق آسيا هي شركات صينية، وبحسب مجلة «آسيا ويك» الصادرة في 25 أيلول 1994 قدّرت قيمة هذه الشركات آنذاك بـ 450 مليار دولار، وذكرت مجلة الاقتصاد الدولي عام 1996 أنّ الصينيين يسيطرون على 90% من الاقتصاد الأندونيسي، و75% من الاقتصاد التايلاندي، و50% من الاقتصاد الماليزي، ويبتلع تايوان وهونغ كونغ وسنغافورة.

في طريق تفتيت الاحتواء الأميركي لها وتفكيك الشراكات الاقتصادية الأميركية تعتمد الصين على قواها الاقتصادية بشكل مباشر لتدخل على كامل جغرافيا الأمبراطورية الصينية القديمة، ومع تنامي هذه القوة وفتح الباب لعسكرة الصين والمنافسة على المستوى العالمي دخلت في استغلال النقلات «الشطرنجية» الأميركية المتسرّعة تحت عامل ضغط الوقت وبدات باستغلال الخطوات الخاطئة منها، وآخر خطوة كانت زيارة بيلوسي لتايوان التي استغلّتها الصين بشكل ذكي جداً بحيث هاجمت وبقوة على المستوى الدبلوماسي والإعلامي الولايات المتحدة وفتحت ثغرة في طبيعة الحركة العسكرية الأميركية ما سمح لها بنقل قواتها إلى الجانب الشرقي من تايوان والقيام بتموضع عسكري ملاصق حول كامل تايوان وتنفيذ مناورات قريبة جداً من شواطئها أمام شلل عسكري أميركي تامّ إذا ما قارنّا الردّ على المناورات العسكرية التي أجرتها الصين عام 1996، ففي ذلك الوقت أرسل الأميركيون الى مضيق تايوان حاملتي طائرات مع مجموعتهما الضاربة بينما اليوم حاملة الطائرات «يو أس أس رونالد ريغن» التي كانت قريبة من تايوان نامت في الموانئ اليابانية، وكذلك وصلت في ذلك الوقت التهديدات بين الجانبين باستعمال السلاح النووي بينما اليوم أجلّت الولايات المتحدة تجربة صاروخ عابر للقارات إلى ما بعد انتهاء المناورات الصينية كي لا تستفز الصين.

أدرك الأميركيون مؤخراً أنهم أخطأوا في فهم الصين، وأعاد الصينيون إحياء حسّهم القومي بأنهم كانوا أمة عظيمة وأمبراطورية قوية، إنْ لم يكونوا الأقوى عبر التاريخ وقد تعرّضوا للإذلال في القرن الماضي، وقد سمّوه قرن الإذلال الذي سبّب الاهتزاز في صورة الصين الحضارية نتيجة ما سمّي بحروب الأفيون، والاستعمار المتعدّد الرؤوس من الأوروبيين واليابانيين، ومقابل هذا فالصين تريد من ناحية الانتقام من قرون الإذلال، وتؤسّس لفرض احترامها على الصعيد العالمي. اليوم يطلقون مصطلح التجديد العظيم ويريدون إعادة الصين إلى ما كانت عليه من القوة والعظمة، ويريدون الانتقام لسنوات الإذلال وليس هناك من عقبة أمام ذلك سوى عقيدة الاحتواء الأميركي لهم التي عليهم أن يحطموها، وهم يسعون لذلك وقد قطعوا أشواطاً كبيرة في هذا الطريق، والنقلة النوعية التي يعملون عليها هي امتلاك التكنولوجيا المتطورة التي لا يزال جزء هامّ منها ممنوع عليهم.

الشيء الخطير الذي يراه الأميركيون لدى الصينين أنّ لديهم سلوكاً تعليمياً مع تجارب لها منحى مخاطرة، وهذا ما يخيف الأميركي بمعنى أنّ الصينيين يجرّبون ويخاطرون ويتعلّمون من الأخطاء ولا يكرّرونها وهذا ما يأخذ منحى التطور الإيجابي السريع عندهم، ويدرك الأميركيون أن ليس هناك حرب سريعة مع الصين، والحرب السريعة عند الأميركيين هي الحرب التي يمكن أن تحقق لهم النصر.

أصبحت الصين اليوم على مستوى عال من القدرة على ملاعبة الأميركيين بذكاء عال مع امتلاكها هامش زمني طويل الأمد تعمل فيه على تطوير قدراتها العسكرية والتكنولوجية خاصة في ما يخص الذكاء الإصطناعي، وأشباه المواصلات والتي تصمّم على امتلاك القدرة الكاملة على تصنيعها، ووضعت الخطط العملية والزمنية للوصول إليها بطريقة مشابهة لامتلاكها التقنية النووية والسلاح النووي.

في طريقها نحو مواجهة الولايات المتحدة تسللت الصين إلى الاقتصاد العالمي، ومثلما نشرت الولايات المتحدة مئات القواعد العسكرية حول العالم، نشرت الصين مئات الشركات الصناعية التي تصنع كلّ شيء من شرق آسيا الى أميركا اللاتينية وصولاً إلى الحدود المكسيكية الأميركية وربطت سلاسل التوريد العالمية بأساطيلها بشكل كبير وبذلك تكون قد قفزت فوق السيطرة الأميركية على مفاصل وممرات النقل البحري وفرضت وجودها وخطتها على رقعة الشطرنج العالمية التي رسمها الأميركيون منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية الى يومنا هذا.

«التجديد العظيم للأمة الصينية هو أعظم حلم لهذه الأمة في التاريخ الحديث» ـ شي جين بينغ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى