أولى

المقاومة بعد أربعة عقود تثبت حقائق وتؤكد أخرى…

} حسن حردان

جاء انطلاق المقاومة الإسلامية المسلحة ضدّ الاحتلال الصهيوني للبنان عام 1982 في وسط نقاش واسع حول جدوى المقاومة ضدّ عدو صهيوني يملك أحدث الأسلحة في العالم ويحظى بدعم الولايات المتحدة الأميركية أقوى دولة في العالم ومعها الدول الغربية المتقدمة.. في حين كانت نتائج تجربة الثورة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير لا تعزز هذا الاتجاه الداعي إلى المقاومة المسلحة، وكانت قيادة المنظمة تتجه نحو خيار «التسوية» مع الكيان الصهيوني المحتلّ بدلاً من الاستمرار بالكفاح المسلح، وهي «التسوية» التي رسمت عناوينها خلال الحصار «الإسرائيلي» لبيروت وكان انسحاب مقاتلي فصائل المقاومة الفلسطينية منها بداية التوصل إلى هذه التسوية التي تجسّدت باتفاق أوسلو السيّئ الصيت

غير أنّ المقاومة الإسلامية الناشئة في مواجهة الاحتلال لم تأبه لمثل هذا الكلام، وكان لقيادتها الثورية الشابة رأي آخر يستند إلى تجارب التاريخ والثورات الشعبية المسلحة ضد أعتى قوى الاحتلال والاستعمار وانتصارها عليها، لا سيما انتصار الثورات الفيتنامية ضدّ الاحتلال الأميركي، وانتصار الثورة الجزائرية ضدّ الاستعمار الفرنسي إلى آخر القائمةفانطلقت المقاومة ضد الاحتلال عام 1982 بكلّ ألوانها وأحزابها الوطنية والقومية والإسلامية، وتصاعدت المقاومة الإسلامية رويداً رويداً وقويَ عودها وازدادت قدرة في توجيه الضربات الموجعة لجيش الاحتلال واستنزافه حتى أجبرته على الانسحاب تلو الانسحاب من المناطق التي احتلها وصولاً إلى إجباره عام ألفين على الرحيل المذلّ مدحوراً عن معظم المناطق التي كان يحتلها في الشريط الحدودي في الجنوب والبقاع الغربي بلا قيد ولا شرط أو أيّ ثمن مقابل، مما ثبت حقائق حاول منظرو التسوية والصلح والاعتراف بكيان العدو تجاهلها عمداً والزعم أنها لا تنطبق على واقع الصراع مع العدو الصهيوني والقول إنه قوة لا يمكن قهرها وإلحاق الهزيمة بها لكون الكيان الصهيوني قاعدة استعمارية للدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي لن تسمح بهزيمته، ولهذا فإنّ موازين القوى مختلة لمصلحة الكيان المحتلّ لفلسطين

فانتصار المقاومة أسقط هذه المزاعم وثبت جملة حقائق أهمّها: أولاً، هزيمة الجيش الصهيوني الذي كان يُقال عنه إنه قوة أسطورية لا تقهر فإذا به يُقهر ويخرج ذليلاً من أرض عربية احتلها لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، بقوة وفعل ونضال المقاومة الشعبية المسلحة بلا قيد ولا شرط.

ثانياً، سقوط كلّ التنظيرات التي كانت تزعم عدم إمكانية تحرير الأرض بالمقاومة المسلحة، وانّ العين لا تقاوم المخرز، وتأكدت حقيقة انّ مقاومة الشعوب تستطيع أن تتحرّر من الاحتلال اذا ما توافرت لديها مقاومة مسلحة على رأسها قيادة ثورية لا تساوم ولا تهادن، وتؤمن بقدرة الشعب على تحقيق النصر ضدّ الاحتلال مهما بلغ من قوة وجبروت..

ثالثاً، تأكدت حقيقة انّ الهزائم العربية أمام العدو الصهيوني، وحصول نكبة فلسطين وتمكن العدو من احتلال أراضٍ عربية أخرى إنما كان نتيجة تواطؤ الأنظمة التابعة للاستعمار من ناحية، وغياب قيادة ثورية تقود المقاومة الشعبية المسلحة، تخوض النضال بأفق استراتيجية التحرير من ناحية ثانية..

رابعاً، ثبتت حقيقة انّ الهزائم العربية أمام كيان العدو الصهيوني، إنما كانت نتيجة ثقافة الاستسلام التي زرعت في ذهن وعقل المواطن العربي، وهي الثقافة التي روّجت لمناخات اليأس والإحباط من عدم إمكانية مواجهة جيش العدو الصهيوني والانتصار عليه.. ولهذا جاء انتصار المقاومة ليبدّد هذه الثقافة الانهزامية ويزرع مكانها ثقافة المقاومة المنتصرة..

انّ نجاح المقاومة في تثبيت هذه الحقائق آثار الذعر والرعب في دوائر القرار في دول الغرب الاستعمارية والأنظمة التابعة للغرب، الذين تحركوا لتطويق هذه المقاومة التي نجحت في تحقيق النصر، والعمل على محاولة إطفاء نور الأمل الذي أشعلته لدى أبناء الأمة العربية بإمكانية تحقيق النصر وتحرير فلسطين والأرض العربية المحتلة، والذي تجسّد في اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الثانية ومن ثم تصاعد المقاومة الشعبية المسلحة في قطاع غزة وصولاً إلى إجبار العدو على الرحيل عن القطاع بلا قيد ولا شرط على الطريقة اللبنانية.

ولهذا تحركت الدول الاستعمارية بقيادة أميركا وبتحريض من كيان العدو لأجل تطويق ومحاصرة المقاومة وإجهاض نتائج انتصارها، وشنّت حرباً اعلامية ونفسية لتشويه صورة المقاومة والعمل على محاولة إثارة الفتنة في مواجهتها، وصولاً إلى شنّ عدوان تموز سنة 2006 لسحق المقاومة والقضاء عليها وإعلان ولادة مشروع الشرق الأوسط الجديد يتسيّد عليه كيان العدو الصهيوني، لكن هذا العدو فشل في تحقيق أهدافه المذكورة ونجحت المقاومة في الصمود وتحقيق الانتصار التاريخي والاستراتيجي على جيش الاحتلال الصهيوني، وبالتالي فرض حقائق جديدة تضاف إلى الحقائق التي ثبتتها في انتصارها عام ألفين، وهذه الحقائق الجديدة تجلّت في الآتي:

الحقيقة الأولى، نجاح المقاومة في منع جيش الاحتلال من احتلال المدن والبلدات الجنوبية بعمق 22 كلم، وبالتالي منعه من الاستقرار في المناطق التي دخل إليها وتحويل بقائه فيها إلى جحيم لا يطيق احتماله ضباط وجنود العدو الذين أصيبوا بأمراض نفسية نتيجة المواجهات الضارية التي خاضوها في مواجهة رجال المقاومة في ميادين القتال في مارون الراس ومحيط مدينة بنت جبيل وعيتا الشعب وسهل الخيام ووادي الحجير إلخوقد وعد قائد المقاومة بأن يدمّر ألوية جيش الاحتلال إذا ما حاولت الدخول مجدّداً إلى جنوب لبنان..

الحقيقة الثانية، فرض معادلة ردع جديدة في مواجهة القوة الصهيونية من خلال تمكن المقاومة من الاستمرار في قصف المستعمرات الصهيونية في شمال فلسطين المحتلة وصولاً إلى الخضيرة القريبة من تل أبيب طوال 33 يوماً من العدوان.. رغم سيطرة طيران العدو على الأجواء.

الحقيقة الثالثة، إسقاط مشروع الشرق الأوسط بنسختيه الكبيرة والجديدة، إلى جانب إسقاط مشروع «إسرائيل العظمى» بعد إسقاط مشروع «إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل» في انتصار المقاومة عام ألفين.

الحقيقة الرابعة، تكريس قوة المقاومة المنتصرة العصيّة على الانكسار في المواجهة مع جيش الاحتلال الذي يعتبر أقوى جيش في المنطقة وخامس أقوى جيش في العالم.. وبالتالي نجاح المقاومة في فرض قواعد جديدة في المواجهة، تقوم على المزج بين خوض حرب العصابات، والحرب النظامية الدفاعية، والتحضير بعد الحرب لخوض حرب تحرير الجليل المحتلّ في أيّ حرب مقبلة، إلى جانب توسيع معادلات الردع لتشمل امتلاك المقاومة القدرة على ضرب ايّ موقع صهيوني في كلّ أنحاء فلسطين المحتلة، انْ كان في البر أو في البحر.. وهو ما تجسّد أخيراً في معادلة كاريش وما بعد ما بعد كاريش التي تستطيع فيها صواريخ ومُسيّرات المقاومة ضرب منصات استخراج النفط والغاز الصهيونية في البحر المتوسط على طول شواطئ فلسطين المحتلة.

الحقيقة الخامسة، تكريس معادلات الردع، وتنامي قدرات المقاومة البرية والجوية والبحرية، لجم قادة العدو وكسر شوكتهم، وجعلهم يحسبون ألف حساب قبل أن يفكروا بشنّ حرب جديدة ضدّ لبنان، لا بل إنّ قادة العدو باتوا يتجنّبون التصادم مع المقاومة وتجاوز خطوطها الحمراء التي فرضتها في الصراع معهلأنهم يعرفون بأنهم سيدفعون ثمناً باهظاً لأيّ اعتداء يقدمون عليه، على لبنان أو على المقاومة وكوادرها، وآخر المعادلات التي فرضتها المقاومة كانت عندما حذر قائد المقاومة العدو من اغتيال أيّ قائد من قيادات المقاومة الفلسطينية في لبنان أو أيّ إنسان في لبنان.. إلى جانب تحذيره من مغبة استخراج الغاز والنفط من حقل كاريش أو أيّ حقل آخر في بحر فلسطين المحتلة إذا لم يحصل لبنان على حقوقه ويسمح له بالتنقيب والاستخراج من حقوله النفطية والغازية في مياهه الإقليمية.

هكذا يمكن القول إنّ المقاومة، بعد أربعة عقود من نشأتها، تحوّلت إلى قوة يهابها العدو وتشكل قوة حماية للبنان وثرواته، كما تشكل قوة دعم وإسناد لمقاومة الشعب الفلسطيني… الأمر الذي أحدث كلّ هذا التحوّل في الصراع العربي الصهيوني، وكرّس تجربة جديدة في الصراع مع الاحتلال تُضاف إلى تجارب الثورات الشعبية العالمية المسلحة المنتصرة على المحتلين والمستعمرين…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى