جميعنا أخوة على ضوء فكر الإمام القائد السيد موسى الصدر
السيد د. علي السيد قاسم*
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ)
الأخوّة هي الرابط الإنساني الذي يقوم على منهج الرسالات السماوية، ينبثق من التقوى ويرتكز على الاعتصام بحبل الكتب السماوية.
الأخوة الإنسانية منحة قدسية، وإشراقة ربّانية، ونعمة إلهية.. يغدقها الله عزّ وجلّ على قلوب المخلصين من عباده، والأصفياء من أوليائه والأتقياء من خلقه الذين علم منهم صدق إيمانهم وعميق إخلاصهم.. إنها قوة إيمانية نفسية تورث الشعور العميق بالمحبة والعاطفة والاحترام، والثقة المتبادلة بين الذين تربطهم أواصر العقيدة الإنسانية، ووشائج الإيمان والتقوى.. فهذا الشعور الأخوي الصادق يولد في نفس المؤمن أصدق العواطف النبيلة، وأخلص المشاعر الصادقة.. في اتخاذ مواقف إيجابية: من المحبة والإيثار، والرحمة والعفو، والتعاون والتكافل.. وفي اتخاذ مواقف سلبية، من الابتعاد عن كلّ ما يضرّ الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وكرامتهم.. ولذا كانت الأخوّة الإنسانية صفة ملازمة للإيمان بالرسالات، إذ لا أخوّة بدون إيمان، ولا إيمان بدون أخوّة.. فالله تعالى يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).
يبدو أنّ الإمام السيد موسى الصدر كان سباقاً إلى تعزيز روابط الأخوة بين الرسالات السماوية وتجلى ذلك من خلال أقواله عن المسيحية وهو العارف بها والملمُّ بكتابها وبحياة السيد المسيح وتعاليمه وهذه خطوة لا بدّ منها للحوار وهي أن يعرف المرء دين غيره في مصادره الأساسية لا من مصادره الذاتية، لكي يستخدمها في الحوار مع مَن هو في الدين الآخر، ليس انطلاقاً من إيمانه هو، بل كما يقدّم الدين الآخر نفسه.
الإمام الصدر يدعو الى احترام التعددية الدينية والثقافية، والحفاظ على الخصوصيات الدينية، أما في موضوع الإنسان فيبدو ثائراً على الفكر الديني الجامد في المسيحية وفي الإسلام، داعياً الى إعادة الدور الأساسي الذي خلق الإنسان من أجله، أيّ إعمار الأرض والعمل من أجل خير الإنسان، الى أيّ دين او قوم انتمى. وتبقى نظرة الإمام الى الأديان كافة قابلة للتحقيق، من حيث أنّ الأديان وُجدت لخدمة الإنسان وكرامته. لهذا ينبغي العمل معاً من أجل إعادة الأديان الى الهدف الذي من أجله وُجدت، أيّ من أجل الإنسان.
يُعتبر الإمام السيد موسى الصدر من كبار المجدّدين الذين انخرطوا في العمل من أجل الإنسان وخيره ومن أجل إعمار الأرض. فلم يكتف بالتنظيرات والكلام المجرَّد بل خرج الى أرض الواقع، وخاض في مشاكل الناس، وسعى الى ترجمة الرسالة الدينية الى الحياة. لذلك جاهد الإمام من أجل الفقراء والمحرومين والمستضعفين، ومن أجل إحقاق وإعادة الكرامة الى الإنسان أشرف مخلوقات الله.
وقف يوماً في كنيسة الكبوشيين، قبيل اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، ليعلن ما يلي: «انّ الأديان عندنا كانت واحدة، لأن المبدأ الذي هو الله واحد والهدف الذي هو الإنسان واحد. وعندما نسينا الهدف وابتعدنا عن خدمة الإنسان، نبذنا الله وابتعد عنا فأصبحنا فرقاً وطرائق قددا، وألقى بأسنا بيننا فاختلفنا ووزعنا الكون الواحد، وخدمنا المصالح الخاصة، وعبدنا آلهة من دون الله، وسحقنا الإنسان فتمزق».
نجده في هذا النص ما يؤكد على ثوابت أربعة شكلت جوهر الأخوة الجامعة بين الإسلام والمسيحية وهي:
أ ـ الإيمان المشترك المسيحي الإسلامي بالله الواحد، ولو تعدّدت التعبيرات عن الله، فالله واحد لا يحدّه تعبير واحد.
ب ـ الدين واحد ولو تعدّدت الديانات فنجده يتحدث عن ديانتين عالميتين تحملان رسالتين ويصل الى القول بـ»دين الله الحق».
ج ـ انّ الديانتين المسيحية والإسلامية جعلتا لخدمة الإنسان وصون كرامته وحقه في الحياة الفضلى والسلام والمحبة والوئام، وجعلتا أيضاً لإعمار الأرض والنهوض بها.
د ـ تدعو الديانتان الى قيم روحية ومبادئ خلقية مشتركة، وتدعوان الى التقارب بين المسلمين والمسيحيين والإفادة المتبادلة من العبر على مبدأ القيم.
وفي كلام آخر له يقول فيه: «اجتمعنا من أجل الإنسان الذي كانت من أجله الأديان، وكانت واحدة آنذاك نلتقي لخدمة الإنسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في الله كلّ شيء، ولكي نلتقي في الله فتكون الأديان واحدة». وبالنسبة إليه أيضاً، «كانت الأديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد. دعوة الى الإيمان بالله وخدمة للإنسان، وهما وجهان لحقيقة واحدة». مما يعني انّ الايمان باللّه لا يكون حقيقياً إلا إذا سبقه الإيمان بأنّ الدين جعل لخدمة الإنسان، لا الإنسان لخدمة الدين، وبأنّ الدين الذي لا يرفع من شأن الإنسان وكرامته ليس ديناً إلهياً، والله بريء منه الى يوم الدين.
يقول الإمام الصدر في تأسيس القاسم المشترك بين الإسلام والمسيحية هو الإنسان «هذا المخلوق الذي خلق على صورة خالقه في الصفات، خليفة الله في الأرض، الإنسان هو هدف الوجود، وبداية المجتمع، والغاية منه…»، يستعمل الإمام، هنا، تعبيرين لاهوتيين، الأول مسيحي والثاني إسلامي: الإنسان المخلوق على الله ومثاله، قمة الخلق في الرواية الكتابية (سفر التكوين،1 26)، والإنسان خليفة الله في الأرض (سورة البقرة،2 30) الذي سخر له الله الأرض والسموات وجميع المخلوقات.
نستخلص مما سبق مما يلي:
أ ـ ثمة «رسالات سماوية» و»أديان سماوية وإلهية» غير الإسلام، والاسلام نقل عن هذه الرسالات السماوية بعض التعاليم والمرويات النافعة في التربية وترسيخ الإيمان.
ب ـ تعددية الشرائع والمناهج الإلهية، وهذا مبدأ قرآني بامتياز: (لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) (المائدة،5 48).
ج ـ توافق الأخلاق الإسلامية مع غيرها من الأخلاق التي نشرتها الأديان السابقة.
يقول الإمام الصدر: «الرسالات الإلهية ذات أطوار ثلاثة تبدأ برسالة الضمير الإنساني، تليها الأنبياء، وأخيراً رسالة التجارب المريرة والصعوبات والمشاكل التي يعانيها الإنسان والتي هي محركات لدفع خلق الإنسان الى الخير والكمال ثم يشرح بإيجاز ما يقصده من الأطوار الثلاثة. فيعتبر انّ الله، في الطور الأول، للإنسان فطرة سليمة وضميراً واعياً هو رسوله الأول (ايّ الضمير) يهدي الإنسان سواء السبيل، ويشعره بأنه جزء من الكون يكمل بعض أجزائه ويكتمل بها ويستشهد بالآية القرآنية القائلة: (كان الناس أمة واحدة) (البقرة،2 21)
وعندما سيطر الجهل على الإنسان فانحرف صانعاً من نفسه ومن أسرته ومن قبيلته ومن عنصره أصناماً عبدها وجعلها آلهة من دون الله الواحد، ثم الطور الثاني، طور الأنبياء وذلك من خلال تعبير قوله تعالى: (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (البقرة213). لقد بعث الله الرسل والأنبياء لهداية الناس وإرشادهم الى طريق الحق لكن الإنسان جعل من الدين او المذهب مركباً جديداً للخلافات وتعبيراً قوياً عن أهوائه وأنانياته، فاثار فتناً وحروباً ومشاكل وأزمات.
ختاماً نقول إنّ تعدد الأديان عند الإمام الصدر يقوم على مباني قرآنية وهو مجال مباراة الى «استباق الخيرات»، وهو كذلك مجال للتعارف: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا انّ أكرمكم عند الله أتقاكم ان الله عليم خبير) (الحجرات،49 13). ويعبّر الإمام عن الاختلاف بين الأديان، كما عبّر النبي محمد عن الاختلاف بين أبناء الدين الواحد حين قال في الحديث الشريف: «اختلاف امّتي رحمة».
ولهذا يحتلّ السيد المسيح في فكر الإمام موسى الصدر موقعاً مميّزاً، فهو الثائر على النظم الظالمة، ومحرر الإنسان من جمود المجتمع الديني، وهو يشابه بنظره أبي عبدالله الحسين شهيد الأمة وفاديها، وهذا ما أظهره الإمام الصدر في رسالة له في ذكرى ميلاد السيد المسيح وذكرى عاشوراء يقول فيها: «وشاء ربك أن يستقبل لبنان بعد نهاية محنته الدامية مع ذكريات الهجرة وعاشوراء، ذكرى الميلاد المجيد وميلاد العام الجديد، ذكرى ولادة الإيمان والسلام والفداء في حربنا التي لا يعالجها إلا عزمنا النابع من إلهام الفادي وفداء الحسين».
*رئيس مركز حوار الأديان والثقافات في لبنان