نقاط على الحروف

سوق السياسة التركية… والعملة البراغماتية!

فاديا مطر

في خضمّ التجمعات السياسية والعسكرية التي تحكم المنطقة، تنفرّد الحلول بالقرار الاستراتيجي الذي يجمع بين ضفتي السياسة والاقتصاد بورقة عسكرة الميدان الممتلئ بكلّ أنواع المتغيّرات، فالمعسكر الغربي المتواجد بقوة في ميدان الحلفاء والأعداء معاً بات تحت رحمة تبديل الراية من بعض حلفائه القديمين ليس من باب التراجع فحسب، بل من باب تغيّر المصالح بعد واقع الحال الذي فرضته العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ومستجداتها، حيث يمكث الحليف التركي للغرب الآن في قلب معادلة التقاطع ما بين القطبين ودائرة صراع الوجود، فالإدارة الأميركية تعلم أنّ إخراج تركيا من الحسابات الجيوسياسية محكوم بالفشل بالنسبة لموقع تركيا الاستراتيجي وهو بدوره يُحفز تركيا على القيام بحوار مع الإشكالات المجاورة لها، برغم أنّ تركيا التي تعاني من ارتفاع التضخم بنسبة وصلت مع بدايات آب المنصرم الى حدود 80%، وبرغم ذلك عمدت الى خلط أوراق المنطقة للحصول على تنازلات أميركية قد تؤدي في سياقها الى تطرف أردوغان في متطلبات المستقبل مع الولايات المتحدة الأميركية بشكل قد يفاجئ بعض الحلفاء الآخرين، لأنّ الجزء الأكبر من الصراع التركي مع الغرب يكمن وراء غاز شرق المتوسط الذي دخل معادلات المنافسة الدولية، حيث العين التركية تنظر بشهية الى مربع الغاز اللبناني المشترك مع فلسطين المحتلة، وهو حيّز ذو شأن كبير لتعويض انخفاض تدفق الغاز الروسي أوروبياً، وهو ما يفسّر أيضاً اللهفة الأميركية لتعجيل ترسيم الحدود بين لبنان وشمال فلسطين المحتلة، لذلك تبدو تركيا تمشي على حذر ما بين العلاقة مع موسكو وواشنطن مع تصوير نفسها أنها معبر دولي بين الطرفين وذلك لتحقيق بعض الأهداف الجيوسياسية في منطقة البحر الأسود والشرق الأوسط وفي جنوب القوقاز

فالدخول بين طيات النزاع في منطقة كاراباخ هو محطة تركية رئيسية لمنطقة غنية بالنفط والغاز في مقابل ما أعلنته العقيدة العسكرية الروسية الجديدة التي تعتبر مضائق الكوريل والبلطيق والبحر الأسود وشرق المتوسط هي بالأهمية الكبرى للأمن القومي الروسي، لذلك كانت إثارة الصراعات التركية الأخيرة مع المحيط الإقليمي بمثابة ورقة ردّ على التخلي الأميركي عنها كدولة حليفة، وغير منتهية بعدم الثقة الروسية الكاملة بها حتى الآن، برغم أنّ تركيا تنظر للتفاهم الروسي ـ الإيراني برغبة عارمة وترى فيه مشجعاً لتقارب منتظر مع دمشق بعد لقاء وزير الخارجية السورية د. فيصل المقداد مع الوزير التركي مولود جاويش أوغلو في بلغراد، حيث يتمّ التوافق الروسي ـ الإيراني في مجال تحسين العلاقة السورية مع تركيا، فهو دليل على نزع تركيا أحد أهمّ الخيوط المتقاطعة مع واشنطن في الوضع الجيوسياسي لسورية، والكلام التركي الأخير عن أنّ واشنطن تدعم مجموعات إرهابية في سورية وتشجع على الوضع الانفصالي ودعم الفيدرالية الكردية في الشرق والشمال السوري لهو فك خيط آخر من خيوط التشابك التركي مع واشنطن، مع مراعاة تركيا لمنع أيّ مواجهة محتملة مع الولايات المتحدة التي ترى في أنقرة حليف يغرّد خارج السرب الأطلسي، وهي الدولة الأطلسية التي لم تنضمّ للعقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، وما زالت تسدّد مدفوعاتها بالروبل الروسي في سوق الطاقة المتبادلة، بحيث أنّ العملة البراغماتية التركية ما تزال ترفض الإملاءات الأميركية نحو روسيا، وهذا يجعل من القرار التركي لفتح بعض الأبواب تجاه دمشق مؤشراً ينحو مع تصاعد الخوف الأميركي والغربي عموماً من أن تتحوّل تركيا لمنصة تجارية وتشاركية مع الاقتصاد الروسي بما يؤسّس لتراجع كبير من الشركات الغربية عن العلاقة مع أنقرة تماشياً مع التحذيرات الأميركية بعد ارتفاع مستوى التوتر مع اليونان المدعومة أميركياً في منطقة شرق المتوسط

وما الاجتماع المرتقب لوزراء الطاقة الأوروبيين لمناقشة الإجراءات الطارئة لمعالجة وضع الطاقة بعد ارتفاع أسعار الغاز الى ما فوق 343 يورو لكلّ ميغاواط ساعي وتقليص الإنتاج بسبب الأسعار ما نسبته 70%، لهو مدخل لتحذيرات جدية وحادة تجاه أنقرة بعد إرتفاع الصادرات الروسية لتركيا مؤخراً، مما يشير الى تطوير سوق مواز باستخدام الشركات التركية كوسيلة للتجارة مع روسيا خارج العقوبات الغربية بعد اعتماد خمسة بنوك تركية نظام المدفوعات الروسية (مير) في مطلع آب المنصرم بحسب ما ذكرته بعض الصحف الغربية، كما وافقت تركيا مؤخراً على دفع بعض واردات الطاقة الروسية بالروبل واستيراد كميات كبيرة من الطاقة عبر خطوط أنابيب ترك ستريم ويلو ستريم كمؤسس لواقع الاستفادة المتبادلة مع روسيا حتى في المجال العسكري والسياسي والاقتصادي والعلاقات الديناميكية المتبادلة مما يجعل من تركيا حليفاً شبه أوروبي وأطلسي لموسكو، فتركيا الباحثة عبر البنك المركزي التركي عن تعزيز الاحتياطات النقدية في معادلة توسع فجوة التجارة الخارجية، لا ترى مانعاً من فتح ممر لمناطق حرة تسود فيها الشراكة مع موسكو ما بين التسويات المالية المتبادلة وتحويل التجارة البينية الى العملات المحلية حتى الوصول الى شراكات في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي تمهيداً لخفض التعامل بالدولار خوفاً من استغلال واشنطن لرصيد السندات الأميركية التي اشتراها سابقاً البنك المركزي التركي كركيزة للتعاملات مع الغرب، فهل ترى أنقرة في جيرانها الإقليميين ورقة رابحة بعد فشل العقوبات الأميركية والغربية على روسيا وإيران والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا وغيرهم؟ وهل تعزيز الروبل بالواردات سيكون ورقة ضغط تركية في مجمل صفحة الانقسامات لتقديم تنازلات أميركية أكثر فائدة مستقبلاً؟ هي المعادلة التركية في سوق السياسة وبراغماتية العملة التي تدير بها أنقرة أجندتها الإقليمية والدولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى