أولى

التعليق السياسي

أبعد من الترسيم

يمكن ملاحظة اصطفافين متداخلين في النقاش حول ملف النفط والغاز. اصطفاف يتصل بالموقف من الملف على قاعدة ربطه بالخط 23 والخط 29، ويضم في صفوفه مؤيدين للمقاومة ومعارضين لها، واصطفاف يتصل بالموقف من المقاومة ودورها ويضم في صفوفه مؤيدين للخط 23 ومؤيدين للخط 29.

النقاش حول خطوط الترسيم مهم، لكنه يتجه عموماً الى تقييم أداء السلطة السياسية في لبنان، بين من يعتبر أنها أجادت أداء دورها في قيادة ملف ثروات النفط والغاز، ومَن يعتقد بأنها أساءت إدارة الملف، ومن يقول في منتصف الطريق إن ارتباكها وتداخل حساباتها المصلحية والفئوية قد أثرا على حسن إدارتها، لكن ما تم التوصل إليه يشكل ثمرة جيدة في النهاية، وحسن التقاط لفرصة تجمعت فيها ظروف دولية سياسية واستراتيجية واقتصادية أيضاً مؤاتية تفاعل مع استثمارها حضور نشط وفاعل للمقاومة.

النقاش حول دور المقاومة يدور على منصة مختلفة عن النقاش حول خطوط الترسيم، رغم كل محاولات خصومها دمج الاصطفافين، بهدف دمج مؤيدي الخط 29 ضمن صفوف خصوم المقاومة وتكبير دائرة المناوئين للمقاومة، التي كانت واضحة منذ البداية بأنها لن تدخل على خط نقاش خطوط الترسيم وتقف وراء الدولة في ما تقرّره على هذا الصعيد، كما أنها لن تدخل على خط تقييم المسار التفاوضيّ وتقف وراء الدولة في حصيلة تقييمها للعروض التفاوضية. والغريب العجيب أن الذين يطلبون منها أن تتدخل ولا يقبلون منها اصطفافها وراء الدولة، هم في غالبهم من الذين يملأون الشاشات والصحف صبحاً ومساء بالحديث عن سياديتهم التي يترجمونها بمطالبة المقاومة بالاصطفاف وراء الدولة.

ما فعلته المقاومة في هذا الملف خلال عام، سيصبح هو الحدث الاستراتيجيّ الأبرز في الشرق الأوسط لسنوات مقبلة، وجوهره هو في انتقال مبدع مزدوج الاتجاهات، قامت به المقاومة لجهة توظيف فائض القوة، الذي بنته بدماء عشرات الشهداء خلال سنوات ما بعد حرب تموز سقطوا بالغارات الإسرائيلية بين صفوف وحدات صناعة ونقل الصواريخ وتعديلها، وقامت بتسييله في معركة قررت المخاطرة بخوضها، ولو تحوّلت إلى حرب شاملة، بعدما أدرك جيش الاحتلال حجم التحول الذي لحق بموازين الردع بينه وبني المقاومة وقرّر التحايل على تظهيره بالحؤول دون أي استفزاز لقواعد الاشتباك التي رسمتها المقاومة تفادياً لأن تظهر المعادلات الجديدة، فجاءته المقاومة من حيث لا يحتسب، ومن حيث لا مجال للتراجع إلا بهزيمة بائنة، فقررت أن تنتقل من ردعه عن الحرب الى تهديده بها، وتحت عنوان يتصل بالثروات الاستراتيجية وليس بالخطوط الأمنية والعسكرية، حيث كان يتربّص ويراقب ويدقق. والانتقال من ردع الحرب الى التهديد بها، هو تغيير كبير في معادلات التوازن الاستراتيجي بين المقاومة وجيش الاحتلال، ما كان ممكناً تظهيره في ملف آخر، غير ملف ثروات النفط والغاز.

الانتقال الثاني الذي أنجزته المقاومة يطوي عقدين من الإنجازات الأميركية ويحولها الى خيبات. كما يطوي الانتقال الأول من ردع الحرب الى التهديد بها، كل ما حاول الإسرائيلي فعله عبر ما وصفه بالمعركة بين الحروب التي كانت عملياً تهرباً إسرائيلياً من المواجهة المباشرة مع المقاومة عبر شن الغارات على سورية لإعاقة بناء المقاومة لفائض قوتها الذي فاجأها به من الباب الخلفي، وجوهر هذا الانتقال، هو تحول المقاومة من سبب افتراضي للانهيار الاقتصادي والمالي في لبنان الى باب الخلاص الوحيد من هذا الانهيار بصفتها صاحبة الفضل في تحرير ثروات لبنان الاستراتيجية التي باتت الأمل الوحيد للنهوض من قعر السقوط. وهكذا بضربة واحدة سقطت سردية أميركية غربية عربية لبنانية عمرها من عمر التحرير عام 2000، وتحوّلت إلى خطاب جماعات المجتمع المدني الذين تصدّروا حراك 17 تشرين بعد الاستيلاء عليه، وسقط شعار جيفري فيلتمان الذي رافق 17 تشرين، بأن على اللبنانيين الاختيار بين فقر مؤكد ورخاء محتمل، وعنوان الفقر الدائم والمؤكد هو خيار المقاومة، وعنوان الرخاء المحتمل هو السير وفقاً للوصفة الأميركية في مواجهة المقاومة. واذا بالمقاومة تأتي الأميركي وهو في حال ذهول وبضربة واحدة تقول كش ملك، الفقر الدائم وصفة أميركية والرخاء المؤكد وصفة المقاومة.

قيمة هذين الانتقالين أنهما يجريان في ظل اعتراف علني أميركي وإسرائيلي، قوامه الوثيقة الأميركية للترسيم، ونصائح جيش الاحتلال لحكومته بقبول الوثيقة الأميركية، وسواء تمّ الترسيم ام لم يتم الخيارات المفتوحة أمام المقاومة في حال فشل التفاوض لاعتبارات «إسرائيلية «، تعزز من فرص المقاومة لفرض هذين التحولين الكبيرين، من موقع أقوى.

عبر هذين الانتقالين الكبيرين والتاريخيين تتحول المقاومة إلى قائد مشروع وطني قومي، أبعد من حدود لبنان، يقول إن المقاومة دخلت مرحلة تحقيق الفائض الاستراتيجي، ودخلت مرحلة تحقيق الردع الاقتصادي والمالي، ودخلت مرحلة التحوّل من وصفة لتحرير الأرض والحماية من العدوان إلى وصفة للبناء الاقتصاديّ، ومن يريد التحقق عليه أن يراقب مسار الهدنة في اليمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى