نقاط على الحروف

حول الاتفاق غير المباشر لفك الاشتباك الاقتصادي والحدودي

 

ناصر قنديل

رغم المكابرة والإنكار التي نعرف خلفياتها السياسية عند الذين يتمسكون بإطلاق النار على إنجاز حماية ثروات النفط والغاز اللبنانية ودور المقاومة فيه، لا بد من تقسيم مستويات النقاش المختلفة، بين التوصيف الموضوعي للحدث الراهن، وعنوانه ملف النفط والغاز، بمعزل عن نقاش الخطوط والحقول، وهو نقاش يجب إجراؤه وحفظ حق أصحاب الرأي المطالب بالخط 29 كحدود بحرية للبنان. والمستوى الثاني، هو إعادة فك وتركيب مشهد المعترضين عن مشهد المشككين عن مشهد الواقفين في المتراس الأميركي وخط هوف والتطبيع الخليجي والدعوات للاعتراف بنهاية القضية الفلسطينية وزمن المقاومة، ويلبسون زوراً ثوب الدفاع عن الخط 29 او 39 لا فرق، ورفض التطبيع وحماية حقوق فلسطين النفطية. أما المستوى الثالث للنقاش فهو التساؤل عما إذا كان الموقف الأميركي الباحث عن حلول سياسية تتيح تجنب الحرب، فيكون علامة بيضاء في سواد عالمي كثيف، ليشكل تعبيراً عن منهج أميركي جديد سيجد طريقه لتعميم في المنطقة على الأقل، وبالتالي ما هي المعاني والأبعاد الإقليمية لهذا الحدث.
أول الكلام هو أن ما لا يستطيع أحد إنكاره هو أن الأميركي والإسرائيلي كانت لديهما نظرة محددة تمترسا وراءها لعشر سنوات تقوم على حصول “إسرائيل” على حقلي كاريش وقانا وترك لبنان ينتظر حتى القبول بخط فريديريك هوف، وأنه كان بمستطاع الأميركي والإسرائيلي مواصلة عمليات التنقيب والاستخراج وإدارة الظهر لأي موقف لبناني، سواء كان عنوانه المطالبة بالخط 29 أو 23، ومع حقل قانا أو بدونه، طالما أن سلاح لبنان الوحيد هو توقيع مراسيم ورسائل احتجاج لدى الأمم المتحدة، وأن الأزمة العالمية في موارد الطاقة والحاجة الأوروبية إلى موارد بديلة للغاز الروسي، كان يمكن أن تجد تعبيرها بتسريع الاستخراج الاسرائيلي من كاريش من دون الاعتبار للاحتجاج اللبناني، لو لم يكن من وراء هذا الاحتجاج سلاح المقاومة وتهديد الأمين العام لحزب الله بالحرب، ما وضع الأمور بين تلبية حاجة ملحّة اسمها الغاز من كاريش، ثمنها حرب لا قدرة على التحكم بمسارها إذا اندلعت، او تلبية طلبات لبنان وعنوانها الخط 23، وحقل قانا، وصيغة لا تتضمن اعترافاً بـ “إسرائيل” أو أي شبهة للتطبيع معها، وتم اعتماد الخيار الثاني وربح لبنان لأن الحرب مع المقاومة مخاطرة غير محمودة العواقب.
في التوصيف يعرف الذين يكابرون لتناول المقاومة بالسوء من خلال الطعن بالإنجاز، واتهامها مرة بالتطبيع ومرة بحماية الاحتلال، ومرة بالاعتراف بكيان الاحتلال، إن كلامهم مجرد هراء، ومحاولة تشويش استباقية لتجنيب الأميركي والإسرائيلي ترددات التراجع أمام المقاومة تجنباً للحرب، وأي قارئ منصف يعرف أن الذي جرى هو اتفاق غير مباشر لفك الاشتباك الاقتصادي والحدودي، حيث تم سحب الفتائل المتفجرة من النزاع الاقتصادي والحدودي، دون أن يتم التوصل لتفاهمات نهائية حول هذه الخلافات، ومعلوم أن مجرد بقاء قضية نزاع واحدة دون حل يعني أن التفاهم لم ينجز، والوثيقة الأميركية التي قبلها لبنان وكيان الاحتلال، تعترف على الأقل بقضيتين عالقتين، الأولى عدم إنجاز ترسيم الحدود في المنطقة القريبة من الشاطئ المسماة بخط الطفافات، ووجود حقل قانا خارج الخط 23 واحتمال تكرار ظواهر مشابهة، وتركها عالقة، مع إيجاد نموذج فك اشتباك حول حقل قانا يناقض الترسيم، ويتجنب التطبيع، والاتفاق غير المباشر لفك الاشتباك الاقتصادي والحدودي ربح صافٍ للبنان، بتوصيف المفاهيم السيادية، والوطنية والقومية والمقاومة.
الذين يحاولون تحميل الصيغة التي تم التوصل إليها، توصيفات وشبهات ليست فيها، يعرفون أنهم يكذبون، فمن يقول إن ما تمّ تشريع لسطو كيان الاحتلال على الحقوق العائدة للشعب الفلسطيني، يدعو عملياً لترك كيان الاحتلال يسطو على حقوق الشعبين اللبناني والفلسطيني، ومن يقول إن ما تم خيانة لأن لبنان تخلّى عن جزء من حقوقه، يدعو عملياً لترك كل الحقوق إذا تعذر تحصيلها كلها، كمن يقول لا تدعوا الاسرائيلي ينسحب من الجنوب ما دام سيبقى في مزارع شبعا المحتلة، وفي النفط والغاز نحن أمام ثروات قابلة للاستهلاك لا تبقى أي قيمة لها بمرور الزمن، ما يجعل الصورة أشد وضوحاً في البحر من البر، والذين يقولون إنهم لا يطلبون الخط 29 ويرفضون ما دونه لكنهم لا يقبلون دوراً للمقاومة في تحصيله، عليهم ان يرسموا خريطة طريق غير الامتناع والشكوى وتسجيل الحقوق، لأن “إسرائيل” والشركات الغربية لن تقيما أي اعتبار لموقف لبنان، ما لم يكن قادراً على التهديد بالحرب، والذين يقولون نريد أن يكون الجيش هو الجهة المعنية بالحماية لا المقاومة، عليهم أن يقولوا ما إذا كان الجيش قادراً على القيام بذلك ويقبل هذا التكليف؟
ما لا ينتبه له الكثير من المشككين والمعترضين، أو ما ينتبهون له ويريدون إخفاءه، وربما هذا ما يثير الذعر فيهم، وهو أن ما جرى يعبر عن تحول استراتيجي كبير، فالأميركي الذي قرر حرب تموز 2006، في قلب استراتيجية النفط والغاز باعتبارها طريقاً لاستيلاد شرق أوسط جديد، من بوابة السعي لضرب حزب الله ومقاومته، هو الأميركي الذي يقبل التراجع أمام حزب الله ومقاومته، ويدعو “إسرائيل” التي كانت آلته للحرب، لقبول دفع الفدية تفادياً للحرب، وهذا يعني شيئاً واحداً وهو أن منهج الانسحاب من أفغانستان يتحول نحو المنطقة، تحت عنوان الاعتراف بفشل القوة العسكرية، والسعي لتفادي المزيد من الحروب في المنطقة بقبول ما لم يكن مقبولاً من قبل، ولهذا تتمة، أبرزها السؤال عن مستقبل بقاء الاحتلال العسكري الأميركي في سورية، والسؤال عن جدوى العقوبات، وهي تتحوّل الى سلاح معاكس في الحرب مع روسيا، وانتهى في لبنان بنظرية “الازدهار ينتج الاستقرار” بدلاً من نظرية التجويع ينتج التركيع، واستبدل نظرية “المقاومة طريق الفقر المؤكد ومعاداتها طريق الازدهار المحتمل، بنظرية المقاومة طريق الإنقاذ ووصفة الحصول على الثروات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى