الوطن

أهالي بعلبك الهرمل في مواجهة مطمر «اللقى الملوثة إشعاعياً» الدكتور محمد حمية: الحل الوحيد للنفايات النوويّة هو التوقف عن إنتاجها وليس دفنها في الدول النامية

عبير حمدان
قبيل هزيمة المجموعات الإرهابية في جرود السلسلة الشرقية حاولت هذه الأخيرة الدخول الى منطقة بعلبك الهرمل بما تمثل من الإجرام والتطرف والعدوانية، وكانت المقاومة لها بالمرصاد وبالتنسيق مع الجيش اللبناني تحقق النصر. وهذه الجرود التي صمد ابناء قراها في مواجهة الإرهاب والتي تحمل في جوفها الينابيع تستحق من الدولة العمل على تشجيرها وفي حال لم تتوفر الإمكانية لذلك حري بالمعنيين الحفاظ على طبيعتها النقية بتحييدها عن كل ما يلوثها.
لعل المفارقة الغريبة أن نشهد تقارير متلفزة حول تفشي وباء الكوليرا بسبب مياه ري الخضراوات الممتزجة بالصرف الصحي وفق ما يقوله المعنيون محذرين الناس من مغبة تناولها دون تعقيم، وفي المقابل نرى تقارير تبرّر لقرار اتخذ في الظل بجعل منطقة جردية غنية بالمياه الجوفية والآبار التي تروي المزروعات مخزناً لمواد إشعاعية قاتلة للنبات والإنسان على حد سواء.
تسربت وثيقة رسمية الى الاعلام من وزارة الدفاع يقول نصها أن هناك نية لدى الدولة بناء مخزن تودع فيه “اللقى الملوثة إشعاعياً” في جرد نحلة وقد صرّح رئيس الهيئة الوطنية للطاقة الذرية الدكتور بلال النصولي لبعض وسائل الإعلام إن المطمر لا يشكل أي خطر وهناك سجال يدور حوله مبالغ فيه.
“مشروع الموت لن يمرّ” هذا هو لسان حال أهالي القرى المتضررة بشكل مباشر في حال نُفِذ المشروع وقد عبر الأهالي في بلدة نحلة عن غضبهم ورفضهم التام لإقامة المطمر بأرضهم، ونفذوا بمشاركة أهالي بعلبك ومقنة ويونين اعتصامًا في ساحة البلدة رفضًا لإنشاء مطمر للنفايات الإشعاعية والنووية في جرود البلدة على مساحة 450 دونمًا في أراضٍ غنية بالينابيع ومجاري المياه والآبار الارتوازية، التي تغذي محيط بلدة نحلة والجوار.
انتظرنا الإنماء… لا الموت البطيء
تتكثف المتابعة الإعلامية لأحوال منطقة بعلبك ـ الهرمل حين يتصل الأمر بالمداهمات والتوقيفات وتصبح المنطقة بكاملها تحت ثقل صورة نمطيّة مبالغ فيها في معظم الأحيان، لكن حين يتصل الأمر بالمطالب الحيوية والإنمائية يسيطر منطق التهميش سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، لذا وبمنأى عن المواقف الرسمية لنواب المنطقة ركزت “البناء” على نبض الناس في محاولة لإيصال صوتهم حيث إن القضية تستحق أكثر من تغطية خبر أو موقف سياسي أو اعتصام.
ولا ينفي الاهالي خشيتهم من المشروع رغم الوعود بإيقاف تنفيذه، فيقول يوسف المقداد من فعاليات بلدة مقنة: “هناك هواجس كبيرة من هذا المشروع حيث إن طمر النفايات الطبية والإشعاعية في جرد نحلة يشكل خطراً داهماً على الآبار الجوفية والينابيع في كافة القرى المجاورة ونحن انتظرنا من الدولة مشاريع إنمائية فإذا بها تفاجئنا باستحضار الموت البطيء وكأن منطقة بعلبك الهرمل على هامش اهتمامات هذه السلطة فقط في ما يجلب لها الضرر”.
ويضيف: “نحن نعوّل على الأقلام الموضوعية التي تنقل الصور بواقعيتها والتحرك الذي قام به اهالي بلدة نحلة لن يكون الأخير بل ستتوالى التحركات الشعبية الرافضة للمشروع وقطعياً لن نسمح بتمريره”.
يؤكد منير شقير إبن بلدة نحلة احترامه لقيادة الجيش وهو إبن المؤسسة العسكرية ويتوجه الى كل المعنيين بالسؤال عن مصير أكثر من عشرة آلاف مواطن في حال تلوثت المياه التي تروي البشر والنبات على حد سواء، فيقول: “المجموعات الارهابية لم تتمكن من دخول بعلبك وقراها حين تمّ التصدي لها على حدود جرود نحلة. وفي هذه الجرود نقاط لجيشنا الوطني وقيادته تعرف كما كل المعنيين في الدولة ما تختزنه الأرض من مياه جوفية وينابيع تروي القرى المجاورة لنحلة وتصل الى مدينة بعلبك، لذلك أستغرب كيف مضى مهندسون مختصون في هذا القرار وأين وزارة البيئة ووزارة الصحة حين يتصل الامر بسلامة الناس”.
ويضيف شقير: “نتمنى أن لا يضعونا في صدام مع الجيش وعلى السلطة السياسية أن تكون بجانب شعبها، يكفي ما حصل في مرفأ بيروت، يكفي ما نعانيه من حصار اقتصادي وموت متنقل، في السلسلة الشرقية منابع مياه لكل لبنان وتصل الى الجنوب، هل يريدون تلويث كل شيء.. نحن لا نريد الإساءة لأحد وتحركنا سلمي ومحق”.
ويجزم محمد المقداد أن القرار حاسم عند الناس ولو اضطرهم الأمر للمواجهة بأرواحهم، فيقول: “نبع اللجوج يروي نحلة ومقنة ويونين ويصل الى مدينة بعلبك وجزء من سهل الكنيسة ودير الأحمر ويجب على وزارة البيئة تحمل مسؤوليتها في هذا الإطار. فنحن لا نثق بالكلام الذي يقول إن إنشاء المطمر سيكون وفق مواصفات مدروسة وسليمة، حيث إن المواد المشعة التي ينوون دفنها في الجرود تأثيرها مضر في غياب أي معالجة تقنية وعلمية”.
ويستطرد المقداد: “كنا ننتظر من الدولة تشجير الجرود والعمل على حل مشكلة تلوث مياه الليطاني خاصة بعد الحديث عن انتشار وباء الكوليرا جراء ري المزروعات بمياه آسنة وفق ما يتم تداوله اعلامياً، وبدل أن تعالج التلوث تعمد إلى تكريسه من خلال طمر نفايات اللقى الإشعاعية في جرودنا. نحن لا نتحدى الدولة لكننا في المقابل لن نقبل ان تجلب الموت لنا ولأولادنا”.
النفايات النووية قاتلة
موقف الناس ثابت لجهة رفض المشروع، اما حول مضار النفايات الإشعاعية وكيفية التخلص منها؟ أكد الدكتور محمد حيدر حمية الباحث في علوم النانوتكنولوجيا لـ”البناء” إن النفايات الإشعاعية يدوم تأثيرها السلبي على الطبيعة البشرية بمعدل زمني طويل، ويقول: “تصنف النفايات الإشعاعية ضمن المواد التي لا يمكن ضبطها في المخازن او الأماكن المأهوله سكنياً وذلك لكون هذه المواد يدوم تأثيرها على الطبيعة البشرية لمعدل زمن يصل الى مائة عام تقريباً. لذلك ومنذ اكثر من خمسين عاما يعمد الباحثون لإيجاد حل لهذه البقايا ومنها إنشاء مراكز تخزين في معادن من الرصاص والكوبالت. الا أن نتيجة التكلفة الباهظة عمدت الدول المستخدمة لهذه المواد الى تصديرها خارج اراضيها ليتم دفنها في مستويات عميقة تحت سطح الأرض. الا ان آخر الدراسات العلمية تشير الى ظهور تسريبات تلوث للمياه الجوفية بنسب كبيرة جداً تخطت المتوقع استناداً الى الوكالة الوطنية لإدارة النفايات المشعة.”
ويضيف د. حمية: “تسمح النفايات المخزنة والمطمورة في الأماكن الجبلية الى تدفق التريتيوم (عنصر مشع) إلى جوف الأرض حيث تتلوث المياه الجوفية بالتريتيوم كما حصل في لامانش فرنسا عام 1976. حيث استنتجت ACRO في تقريرها أن التلوث لم يختف بعد الى يومنا هذا. على الرغم من انخفاضه بشكل عام، لا يزال تلوث المياه الجوفية يصل إلى 150.000 بيكريل في اللتر، أي ان المياه و التربة أصبحتا غير صالحتين لصحة الإنسان والزراعة.”
ويفصل د. حمية طبيعة كل قسم من هذه النفايات ووفق عمرها الزمني: “تقسم هذه النفايات الإشعاعية من ثلاثة أقسام حسب عمرها الزمني: قصيرة الزمن، متوسطة الزمن، عالية الزمن.
تعتبر النفايات قصيرة الزمن او المتوسطة ذات المستوى المنخفض من الإشعاع وتتعلق بانتاج (الملابس، والأدوات، والقفازات،…) وتشغيل المنشآت النووية أو المعامل البحثية والمستشفيات والجامعات وما إلى ذلك أو من عمليات التنظيف والتفكيك، حيث يتم تخزينها غالباً في بلدان المنشأ.
أما النفايات ذات الإشعاع عالي الزمن يتم في أكثر الأحوال تصديره الى الدول النامية ليتم طمره في أماكن جبلية صخرية، وهنا المشكلة الكبيرة، حيث أن المناطق الجبلية تحتوي في باطنها على بحور من المياه تسمى Nappe phreatique حيث تبدأ هذه الطبقة برفع المياه الى الأعلى وخصوصا في فصل الربيع، وهذا ما يقود الى الينابيع والآبار السطحية، فاذا ما طمرت هذه المواد في محيط جبلي كامل، لا ينحصر التلوث فقط على المكان نفسه، إنما يتمّ تلوث معظم الطبقة المائية تحت الجبال لزمن طويل جداً.
ويؤكد د. حمية إن الواقع الذي تعاني منه بعض الشركات العالمية لجهة معالجة مشكلة هذه النفايات مغاير تماماً لما يتم تسويقه إعلامياً في هذا الاطار، فيقول: “لقد ذكر في تقرير ACRO حقيقة مروعة مفادها أن بعض الشركات العالمية لم تكن قادرة حتى على إدارة هذه النفايات على مدى عقود طويلة، بعكس ما كان ينقل إعلامياً.
فالنفايات الإشعاعية: مشكلة غير قابلة للحل. حيث أثبتت الحلول المقترحة، بدءًا من مراكز التخزين، عدم كفاءته، أو حتى ما هو أسوأ من خطورتها. لذلك، فإذا كانت الدول الكبرى توقفت حتى عن سرد أي نقاش للتخلص من النفايات، فلا يصح للدول النامية مجرد التفكير في استقبال هذه المواد.”
ويختم د.حمية: “رأيي الخاص ان الحل الوحيد الممكن للنفايات النووية هو التوقف عن إنتاجها وليس دفنها في الدول النامية. فإذا كان تأثير الإشعاع النووي حتمياً بالموت، فإن النفايات المشعة قاتلة مع مرور الزمن”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى