أولى

ملامح الحرب العالمية الأولى والجغرافية السياسية الجديدة

‭}‬ د. جمال زهران*

يعتقد البعض من المحللين السياسيين والاستراتيجيين، أنّ الحرب العالمية الثالثة، يجب أن تكون مماثلة للحربين العالميتين: الأولى (1914-1919)، والثانية (1939 ـ 1945)، حيث المواجهة عسكرية شاملة، وأن تكون متعددة الأطراف، وأن تقع محاصرة في «قلب العالم» في أوروبا والشرق الأوسط والمنطقة العربية. إلا أنّ هؤلاء على ما يبدو يتجاهلون المسار التاريخي للبشر، وتجاربهم في الصعود والانهيار وشكل الحروب. وكذلك يتجاهل هؤلاء نمط التكرار للحروب، وقد يكون ذلك بالتوازي مع درجة التقدّم العسكري والتكنولوجي.
وفي ظني أنّ القراءة التحليلية للحروب العالمية، تشير إلى أنّ العالم قد شهد حربين كبريين في النصف الأول من القرن العشرين، أنهكت العالم اقتصادياً وعسكرياً، وشهد دماراً شاملاً، وضحايا بالملايين من البشر، وقد سبق أن أشرنا في مقالات عديدة إلى تفصيل لذلك. كما أنّ العالم قد سبق أن واجه حروباً تتسم بالعالمية في القرن التاسع عشر، عرفت بالحرب السبعينية، وما يماثل ذلك في القرون السابقة على القرن التاسع عشر. وعندما دخل القرن العشرون، كان قد شهد تطوراً تكنولوجياً وعسكرياً بمعيار الزمن. فلأول مرة تدخل الدبابة والطائرة، الخدمة العسكرية ومن المهمّ أن يتمّ التجريب، حتى وصلت الأمور إلى مواجهات محدودة، سرعان ما تطوّرت إلى حرب عالمية وشاملة. وما أن انتهت الحرب العالمية الأولى، وفشلت «عصبة الأمم» في الحيلولة دون تكرار الحرب، سقطت، لتبدأ الحرب العالمية الثانية. وكان لإنتاج السلاح النووي، وإطلاق أول قنبلتين نوويتين أميركيتين على (ناغازاكي وهيروشيما) في اليابان في أغسطس 1945، ثأراً لما أقدمت عليه اليابان بتدمير حاملات الطائرات الأميركية في «بيرل هاربر» (غرب أميركا) في عام 1942، أن أدّى ذلك إلى إيقاف الحرب العالمية الثانية، ورسوخ القناعة بأنه من المستحيل اندلاع حرب عالمية ثالثة في ظلّ السلاح النووي لدى الكبار. ولذلك تكوّن «النادي النووي العالمي»، الذي يضمّ نحو (10) دول حالياً، الذي يجتمع على هدف واحد هو منع الانتشار النووي، ليظلّ التوازن قائماً، ويستمرّ الاستقرار تحت السيطرة، بما يحول دون اندلاع حرب عالمية ثالثة، أو مرة أخرى.
وبحكم الواقع وتحدياته، فإنّ دولاً من العالم الثالث، استطاعت أن تفلت من الحصار، وتنتج «سلاحاً نووياً»، بحجة تحقيق التوازن. حيث تمكنت الهند، ومن بعدها باكستان، من إنتاج «القنبلة النووية»، واقتنع العالم بأنّ ذلك في مصلحة الأمن العالمي والاستقرار الدولي.
ثم تمكنت كوريا الشمالية وإيران من تجاوز العتبات قبل النهائية لإنتاج القنبلة النووية، إلا أنهما يواجهان حصاراً وعقوبات من الغرب للحيلولة دون إنتاج هاتين الدولتين، لهذا السلاح، للحفاظ على التفوّق الصهيوني، وأن يبقى التوازن في صالح الكيان الصهيوني خاصة والغرب عموماً.
وقد أفلتت كوريا الشمالية، وفي الطريق إيران، من كلّ العقبات رغم الحصار والعقوبات! وهو الأمر الذي قد يصبّ في تغيير معادلات القوة العالمية في بعض مناطق العالم، وخصوصاً القلب منها.
ومن ثم فإنّ القول بأنّ العالم لن يشهد حرباً عالمية ثالثة أو جديدة، ربما يكون صحيحاً ظاهرياً، في ضوء انتشار السلاح النووي وقدراته التدميرية، وصحيحاً أيضاً إذا ما قيل إنّ الحرب العالمية الثالثة ستكون نسخة مماثلة لما حدث في الحربين العالميتين: الأولى والثانية في النصف الأول من القرن العشرين.
إلا أنّ القراءة الواقعية تشير إلى أننا نعيش حرباً عالمية جديدة بعد مئة عام من اندلاع الحرب الأولى في القرن العشرين، ولكنها مختلفة اختلافاً جذرياً عنها، حيث التقدّم التكنولوجي والعسكري، يفوق آلاف المرات ما كان في العشرين عاماً الأولى التي اندلعت في سياقها الحرب العالمية الأولى.
فالمؤكد أنّ التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وذلك في 24 شباط/ فبراير 2022، هو تاريخ بداية الحرب، وتدمير أوكرانيا، وضمّ أربعة أقاليم وبإجراءات دستورية وقانونية، بالإضافة إلى «القرم»، تمثل نحو 30% من مساحة أوكرانيا، بالإضافة إلى السيطرة على المحطة النووية الأوكرانية (زابوروجية)، لتفادي استمرار خضوعها لحاكم أوكرانيا، ويمكن استخدامها في الحرب، عندما يصل إلى درجة «صفر» (إحباط).
والمؤكد أنّ روسيا، عازمة، وبلا توقف على تحقيق أهدافها كاملة، من وراء التدخل العسكري لها في أوكرانيا.
والمؤكد أنّ روسيا لديها القدرة على الصمود، في مواجهة العقوبات، بل ومواجهتها، والواقع يشهد بأنّ روسيا تمتلك قدرات اقتصادية عالية.
والمؤكد أيضاً أنّ روسيا تمتلك القدرة على الردع والهجوم، وظهر ذلك واضحاً في تدمير روسيا لغواصة نووية بريطانية، رداً على قيام بريطانية بضرب خط أنابيب الغاز الروسية المتجهة لأوروبا. ومن ثم فروسيا، عندما تتعرّض لضربة ما، تردّ عليها على الفور، في إطار الردع الشامل بالهجوم الشامل.
المؤكد أيضاً أنّ روسيا أصبحت لديها المبادرة على تشكيل تحالفات دولية مع الصين والهند والتعانق مع قوى إقليمية بارزة (إيران ـ كوريا الشمالية ـ سورية)، بل والهند كقوة عالمية أيضاً، مما يشير إلى بزوغ نمط «الاستقطاب الدولي»، وهو في القلب من نظام عالمي جديد، يقوم على التعددية القطبية، بديلاً عن «الواحدية» الذي تسعى أميركا إلى تكريسه، وواجه فشلاً غير مسبوق.
المؤكد أيضاً وأخيراً، أنّ ضرب النظام الاقتصادي الرأسمالي، ورمزيته «الدولار»، هو أحد أهمّ أهداف الحرب العالمية الثالثة الجديدة، أو ما يمكن القول، بأنها الحرب العالمية الأولى في القرن الحادي والعشرين.
في ضوء ذلك، فإنّ العالم يعيش الحرب العالمية الأولى في القرن الحادي والعشرين (2022 ـ …..)، وتشمل الجوانب (السياسية والعسكرية والاقتصادية)، ولا تزال جغرافيته السياسية في نطاق «القلب العالمي» في أوروبا والشرق الأوسط والمنطقة العربية، وربما تمتدّ جغرافية الحرب، لكن من المؤكد أنّ جغرافية العالم وتكتلاته الإقليمية، في طريقها نحو التحوّل والتغيير، في ضوء، ما ستسفر عنه نتائج هذه الحرب الأولى العالمية في القرن الحادي والعشرين، وغداً سنرى…
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى