أولى

أيها اللبنانيون: احذروا المؤامرة الجديدة على وطنكم وعلى ثرواته

‭}‬ د. عدنان نجيب الدين
من المعروف ألا شيء يدوم إذا كان بالإكراه، ولا شيء مسموح به أن يحصل إذا كان فيه خراب البلد وزواله.
لقد ارتضى اللبنانيون العيش معاً ضمن كيان الدولة اللبنانية التي أسّسها لهم المنتصران الكبيران في الحرب العالمية الأولى، ايّ فرنسا وبريطانيا، وكان ذلك من ضمن رسم خرائط المنطقة التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية. وجاء تأكيد التمسك بهذا الكيان الواحد عبر الدستور اللبناني كما جرى تأكيد هذا التمسك من خلال وثيقة الوفاق الوطني التي تمّ توقيعها في الطائف عام 1989 وجرى التصويت عليها لاحقاً ممن تبقى على قيد الحياة من النواب اللبنانيين المجدّد لهم قسراً بسبب ظروف الحرب الأهلية، وأهمّ ما في هذه الوثيقة تأكيد أنّ لبنان بلد نهائي لجميع أبنائه، وأن لا شرعية لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
اليوم، في ظلّ الخلاف المستحكم بين القوى السياسية الفاعلة على الساحة اللبنانية الذي أدّى إلى فشل المجلس النيابي بانتخاب رئيس جديد للجمهورية يخلف الرئيس ميشال عون، تعود إلى واجهة الخطاب السياسي شعارات أبرزها: الشراكة الوطنية، وإعادة النظر في التركيبة اللبنانية.
ولطالما كانت الشراكة مطلب القوى الإسلامية في دستور ما قبل الطائف، حيث كانت هناك غلبة عددية للمسيحيّين في المجلس النيابي على المسلمين وكذلك في الحكومات التي كان يشكلها رئيس الجمهورية بمفرده يعقب ذلك عرضها على المجلس النيابي لتنال الثقة.
وجاء اتفاق الطائف ليصحّح ما سُمّي بالخلل الدستوري نتيجة التغيّر الديموغرافي وتلبية لمطلب المساواة في الشراكة بالحكم. لكنه ظلّ معيباً بالكثير من الثغرات والنواقص أبرزها الحفاظ على النظام الطائفي الذي خرب صيغة العيش المشترك نتيجة المحاصصة الطائفية والمذهبية، نجد اليوم أنّ القادة المسيحيين يعودون، وربما عن حق، إلى الشعار نفسه الذي كانت تطرحه القوى الإسلامية قبل الطائف وهو الشراكة المتساوية في الحكم، وعدم الذهاب إلى عقد جلسات حكومية في ظلّ الشغور الرئاسي، وإلا فإنّ خللاً يصيب هذه الشراكة وهذا ما لا يجب أن يسمح به. وبغضّ النظر عن صحة هذه النظرية أو خطئها، فإنّ مصالح الناس الحياتية هي ما يحدّد في النهاية ضرورات انعقاد الحكومة أم عدم انعقادها لأنّ مصالح الناس الحياتية تعلوا على ما عداها من مصالح.
وبدل أن تدفع القوى المطالبة بتصحيح الشراكة إلى التوافق والإسراع بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، راح بعض القادة الذين يحملون راية التمثيل المسيحي في النظام، يتخذون من انعقاد مجلس الوزراء في غياب انتخاب رئيس للجمهورية ذريعة لضرب وحدة الكيان اللبناني والذهاب الى التقسيم أو الفيدرالية تحت شعار اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة التي دعا إليها اتفاق الطائف. وكما هو معروف فإنّ اللامركزية الواردة في الاتفاق المذكور كان الهدف منها الوصول إلى الانماء المتوازن وتسهيل حياة المواطنين وتأمين الخدمات لسكان الأطراف والحيلولة دون تجشمهم عناء الانتقال إلى العاصمة لإنجاز معاملاتهم وكذلك تخفيف الضغط عنها. وهذا يقتضي توفير ميزانيات خاصة بالمحافظات بعد إعادة رسمها مع شيء من الاستقلالية الإدارية.
لكن اللامركزية الإدارية شيء والفيدرالية شيء آخر.
فذهاب بلد موحد مع سلطة مركزية موحدة إلى الفيدرالية وإنشاء كانتونات طائفية هو التقسيم بعينه. على عكس الفيدرالية في دول أخرى كانت دولا قائمة بذاتها، فقرّرت أن تتحد وتنضوي في كيان واحد باتحاد فيدرالي.
فلماذا بدأنا نسمع اليوم بشعارات التقسيم والفدرلة أيّ بالعودة إلى شعارات من زمان الحرب الاهلية؟
يبدو أنّ بعض اللبنانيين لم يتعظوا بعد من كلّ التجارب الماضية وما أصابهم فيها من ويلات تجلت بعشرات الآلاف من القتلى والمصابين ومئات آلاف المهجرين أو المهاجرين إلى بلاد بعيدة حيث أسّسوا فيها حياتهم من جديد مما أفقد الوطن خيرة شبابه من المتعلمين والعمال المهرة. وهذا أحدث تغيراً في الديموغرافيا الوطنية، فهل يريد دعاة التقسيم والفيدرالية الإجهاز على ما تبقى من خيرة أبناء الوطن وعائلاته؟ وهنا نحذر شركاءنا في الوطن من الاستماع أو تصديق كلّ الصور الوردية الخيالية التي يرسمها للسذج بعض المضللين أو المرتبطين بمشاريع خارجية، والتي يدعمونها بالوعود والأوهام الكاذبة التي ستؤدي بهم الى كارثة على المستوى الوجودي.
ولكي نثبت عدم صحة أو مشروعية ما يذهبون اليه، نقول، وهذا ما لا يستطيع أن ينكره أحد، يكفي ان ننظر الى انتشار اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم فوق كامل الخارطة اللبنانية. فيندر أن تجد منطقة ما من دون وجود عائلات روحية من طوائف أو مذاهب مختلفة عن الطائفة الغالبة. وهذا دليل دامغ على تسامح اللبنانيين في ما بينهم، بمعنى قبولهم بعضهم البعض وعيشهم الواحد وتعاونهم في ما بينهم.
إنّ من يدعو إلى التقسيم أو الفدرلة بخاطر بوجود أبناء طائفته، وندعو إلى التوقف عن شنّ حملاته السياسية بهدف تحقيق عملية غسل دماغ، او تلويث دماغ، لترهيب أبناء طائفته أو مذهبه وتخويفهم من بقية العائلات الروحية بتسميم العلاقة معهم، ونحذر من مخاطر العبث بالسلم الأهلي ورسم كيانات اصطناعية لكي يتمتع فيها هذا الزعيم او ذاك بالسيادة عليهم وتحقيق مكاسب شخصية وآنية له على حساب أبناء جلدته وأبناء الوطن كافة.
وكلّ هذه الحملة التضليلية التي يقوم بها البعض بدعوى الحرص على الشراكة في الحكم هي فقط لإعفاء نفسه من المسؤولية عن الانهيار الذي وصل اليه البلد سواء بالسياسات الفاشلة التي اتبعها، او بالنهب المنهجي للمال العام ولأموال المودعين، وبالسياسات الاقتصادية الريعية غير الإنتاجية وتحميل تبعات تلك السياسات لصيغة العيش المشترك أو العيش الواحد الذي يؤمن به اللبنانيون ما عدا أصحاب النفوس المريضة أو المنخرطين في مشاريع قديمة جديدة لا تريد الخير لبلدنا ولا لشعبنا، بل هي جزء من المشاريع التي خططت وتخطط لها الصهيونية العالمية المتحالفة مع دول الغرب لتقسيم المنطقة وتفتييت كياناتها وتخريب حياة شعوبها، وذلك لكي يبقى الكيان الصهيوني الغاصب القوة الوحيدة المتماسكة التي يرهبها العرب، ولكي تبقي القوى الغربية سيطرتها على منطقتنا لنهب ثرواتنا كما يحصل اليوم من نهب للثروات البترولية في ليبيا وسورية والعراق، والعين القادمة على نهب غاز ونفط لبنان، وكذلك الاستحواذ على ثروات البترو دولار والاحتفاظ بها في المصارف الأميركية والغربية للاستفادة منها في مشاريع استثمارية هناك لتأمين رفاهيتهم وازدهارهم على حساب شعوبنا. وبعد إفقار بلادنا من خلال تحكيم أنظمة فاسدة برقابنا، يعودون ليقرضونا من صناديقهم المالية بعضاً من النقود التي نُهبت من ثروات العرب وذهبت إلى الغرب من خلال تلك الدولارات البترولية. ويكفي النظر إلى الأموال التي يتمّ تحويلها سواء مباشرة من البنوك العربية إلى البنوك الغربية، أو من خلال ما قام به السياسيون الفاسدون اللبنانيون من هدر كبير في المال العام ما ادّى الى تراكم الثروة في أيدي قلة قليلة قامت بتحويل ثرواتها إلى البنوك الغربية، ويحاول المسؤولون اليوم التفاوض مع البنك الدولي لإقراضنا بضعة مليارات من هذه الدولارات المنهوبة والمحوّلة إلى الخارج، وهي في الحقيقة أموال اللبنانيين التي تمّت سرقتها من قبل بعض الساسة عندنا أو من بعض من أصحاب الشأن في الدولة العميقة في لبنان المتمثلة بالمصارف وأصحاب الاحتكارات وغيرهم.
لذلك نقول: أيها اللبنانيون، احذروا الوقوع في شرك التقسيم او الفدرلة، يريدون أن ينسوكم الكوارث التي جلبها عليكم هؤلاء التقسيميون بالشراكة مع الفاسدين من كلّ الطوائف والمذاهب. يريدون، وربما عن غير قصد، أخذنا إلى حرب أهلية جديدة لا يستطيع شعبنا في لبنان تحمّلها ولا تحمّل نتائجها. هناك في الخارج من يزيّن لبعض اللبنانيين فكرة التقسيم والفدرلة، وعلينا الحذر منهم لأنهم لا يريدون خيراً للبنان. إنهم يريدون تفتيت كياننا ودولتنا لإزالة لبنان عن الخريطة. ولا أعتقد أنّ لبنانياً واحداً مخلصاً يقبل بذلك.
ونحن، كما كلّ الحريصين على لبنان، نرى أنّ الحلّ لأزمتنا الراهنة ليس طائفياً ولا في الكانتونات الطائفية، بل بتغيير النظام من نظام المحاصصة الطائفية بين الزعماء، إلى نظام الدولة الوطنية غير الطائفية، نظام يساوي بين اللبنانيين وينظر إليهم كمواطنين أصحاب حقوق متساوية وليس كرعايا. نحن بحاجة إلى دولة يحصل فيها المواطن على حقوقه بانتمائه إليها والقبول بقوانينها المدنية والخضوع لها وتطبيقها، والاستغناء عن الزعيم وخرافة تحصيله حقوق الطائفة بإهدار حقّ المواطن وجعله زبوناً عنده وصوتاً في صندوق الاقتراع. وكلّ ما تشهدونه من صراعات ومشاريع تقسيمية أو طائفية، هو صراع بين الزعماء لا دخل لنا فيه كمواطنين إلا من حيث إصرارنا على تعرية فسادهم ونهبهم للمال العام، وكذلك من خلال مطالبتنا كمواطنين غير مختلفين مع بعضنا بسبب انتماءاتنا للعائلات الروحية التاريخية في لبنان، بل بسبب تصديقنا لما يقوله الزعيم، أيّ زعيم، عن صراع الطوائف والمذاهب. المسيحية والإسلام ديانتان سمحتان تجمعاننا كلبنانيين، أما الزعماء الذين يريدون الفرقة بيننا فهم أبالسة ليس لهم علاقة بالدين ولا يؤمنون إلا برب واحد ألا وهو المال الذي تأتي به السلطة أو السلطة التي تأتي لهم بالمال، والسيد المسيح قال:
« أنتم لا تستطيعون أن تعبدوا ربين: الله والمال». حذار من مؤامرة التقسيم، فالعدو الواقف على أبوابنا الجنوبية يريد اضعافنا بتفرقتنا، وسيصبح داخل البيت إذا حصل التقسيم، ولبنان الذي يعاني شعبه اليوم ضعيف بما فيه كفاية بسبب سياسييه الفاشلين، سيكون أضعف غداة التقسيم، وسيعاني أبناؤه أكثر بعده، وسيصبح نفطه وغازه عرضة للنهب والسرقة، ولات ساعة مندم. وقديما قال الشاعر:
تأبى العصي إن اجتمعن تكسرا
وإذا افترقن تكسرت آحادا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى