أولى

حرب أوكرانيا في عامها الثاني: بين الواقع والمحتمل…

 

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*
عندما وقّعت أوكرانيا مكرهة في العام 2014 ثم في العام 2015 على اتفاقات مينسك ظنّت روسيا أنّ الباب أغلق أمام المخاطر التي تهدّد الروس في الدونباس وأنّ أمنها القومي بات خارج دائرة الخطر على حدودها الغربية وأنها مع هذا المستجدّ تستطيع ان تتحرك بمرونة ورشاقة أكبر على المسرح الدولي.
بيد أنّ الظنون الروسية لم تكن في محلها من الصحة، لأنّ الغرب كان يضمر شيئاً آخر، ويرى في اتفاقات منيسك فرصة تكسبه الوقت لتهيئة المسرح في أوكرانيا ليكون المحلّ الذي تستدرج إليه روسيا وتجبر على حرب استنزاف تفضي الى تدمير قدراتها العسكرية خارج حدودها وتفتح تلك الحدود أمام المدّ الغربي للسيطرة على روسيا ووضع اليد على ثرواتها سواء تمّت المحافظة على هيكلية الاتحاد الروسي الحالية، أو تمّ تقسيم روسيا الى 3 دول في الحدّ الأدنى، وقد كانت المستشارة الألمانية السابقة ميركل والرئيس الفرنسي السابق هولاند صريحين بقولهما «كانت اتفاقات مينسك 2014 خدعة أريدَ بها منح أوكرانيا الوقت اللازم لتستعدّ للحرب ضد روسيا». وبالفعل تأكد هذا مرة أخرى عندما أوقفت أميركا المفاوضات التي عقدت بين موسكو وكييف في الأسابيع الأولى للعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أوقفها لأنه يريد «تحطيم روسيا وليس التفاوض الذي يضمن شيئاً من مطالبها» (هذا ما قاله المسؤول الإسرائيلي بيّنت الوسيط بين الطرفين).
إذن ومنذ توقيعها كانت اتفاقات منيسك محلّ خلاف في النظرة إليها بين من يريدها معبراً للهدوء والسلام وحسن الجوار، وبين من ينظر اليها على أنها فرصة لكسب الوقت للاستعداد للحرب.
ويبدو أنّ أوكرانيا، مسيرة بالقرار الغربي (الأميركي الأوربي)، وبعد أن استشعرت جهوزيتها للدخول في مواجهة مع روسيا وفقاً للنظرة الغربية، بادرت إلى استفزاز روسيا في أكثر من عنوان، مبتدئة بالمجاهرة بسعيها للانضمام الى الحلف الأطلسي، ثم القيام بعمليات عسكرية انتقامية ضدّ السكان في الدونباس من أصل روسي خروجاً على اتفاقات منيسك.
وفي المقابل عملت روسيا بكلّ ما في وسعها من أجل تجنّب المواجهة العسكرية وتحقيق مصالحها الأمنية بالتفاوض وطرقت أكثر من باب للوصول الى أهدافها تلك بشكل سلمي، لكن الغرب فسّر السلوك الروسي ضعفاً واستمرّ في الضغط على زيلينسكي لمواصلة استفزاز روسيا الى ان اتخذت الأخيرة قراراً بعملية عسكرية محدودة تعتمد فيها «استراتيجية الضغط الميداني من أجل التفاوض» الذي يضمن امنها القومي وأمن الروس عبر الحدود في الدونباس، وكادت تلك الاستراتيجية أن تحقق أهدافها بعد 3 أسابيع على بدء العملية العسكرية الخاصة التي انطلقت في 24 شباط/ فبراير 2022 ونفذت بسرعة على 3 محاور بلغ أحدها مشارف كييف والآخرين أحدثا توغلاً في الدونباس حيث تقوم ولايتا لوغانسك ودونيتسك اللتين أعلنتا الانفصال عن أوكرانيا وعقدتا معاهدة انضمام الى روسيا تبرّر طلب المساعدة للدفاع عن إقليمهما.
وجد الغرب في الدخول الروسي الى أوكرانيا فرصته لاستنزاف روسيا وتحطيمها، وأعلن فتح مخازنه ومستودعاته لتقديم المساعدات العسكرية الى أوكرانيا بغزارة، مساعدات عوّل عليها لتمكين أوكرانيا من الصمود الدفاعي أولاً ثم التحوّل الى الهجوم المعاكس ثانياً ثم تطوير المواجهة وصولاً الى تحطيم قدرات روسيا لإخضاعها في نهاية المطاف.
هنا أدركت روسيا انّ أبواب التسويات السلمية مع أوكرانيا وبسبب موقف الغرب مقفلة وانّ هذا الغرب مصرّ على استنزاف روسيا في الميدان الأوكراني عبر حرب بالوكالة يكون الأوكران وقودها ومعهم كمّ من المرتزقة الأجانب بما يكفي لخوض حرب طويلة وناجحة، ولذلك كان على روسيا ان تراجع استراتيجيتها في أوكرانيا وتضع لنفسها خطوطاً حمر لا تتعداها منها: تجنّب حرب الاستنزاف، تجنّب الهزيمة مهما كانت الظروف والأثمان، عدم التراجع عن حماية الروس في الدونباس مهما كانت التضحيات، وبمعنى آخر رأت روسيا أنها ملزمة بالتحوّل الى استراتيجية جديدة تغادر فيها «الضغط للتفاوض» الى استراتيجية فرض المطالب عسكرياً ميدانياً، ويكون التفاوض في نهاية الحرب للتسليم بهذا الواقع المفروض.
وفي فترة التحوّل من استراتيجية الضغط الى استراتيجية السيطرة على الأرض في حدود ما يؤمّن الأهداف الاستراتيجية الكبرى لروسيا، اضطر الجيش الروسي الى إعادة الانتشار في أوكرانيا ورسم خطوط المواجهة بشكل استدعى الانسحاب من مناطق وجبهات وتثبيت مناطق وجبهات والعمل الناشط على ما تبقى وبالقدر الذي تسمح به الإمكانات العسكرية المخصصة للعملية الخاصة في أوكرانيا، وأهمّ ما في هذه المرحلة كان التراجع او الانسحاب من بعض المناطق الاستراتيجية شرقاً وجنوباً، انسحاباً فسّره الغرب بأنه «هزيمة أولية» تلحق بروسيا ويجب ان يتبعها هزائم وصولاً للهزيمة الكبرى التي تخطط لها أميركا، التي تسارع ضغطها على حلفائها الأوروبيين من أجل تقديم المزيد من المساعدات العسكرية ومن الأسلحة المتطورة (الدبابات ليوبارد وابرامز ومنظومات الدفاع الجوي أو الصواريخ أرض ـ أرض) أيّ المساعدات التي تعزز قدرات كييف النارية وعنصر الصدم لديها بشكل يكسبها قدرات هجومية مناسبة تمكنها من دحر الجيش الروسي وإنزال الهزيمة الكبرى به التي يدّعي زيلينسكي انها «ستحصل هذا العام».
بيد انّ المشهد من زاوية النظر الروسية كان خلافاً لما تقدّم، حيث انّ روسيا ومع التزامها بالخطوط الحمر المتقدّمة الذكر، اتجهت في مسار يمكنها من تطوير العملية بشكل يتناسب مع التدخل الغربي فيها وهو التدخل الذي جعل منها «حرباً عالمية» الى حدّ ما، حرباً تتعدّى ميدان القتال لتصل الى مواجهة عقيدية وأيديولوجية بين شرق محافظ على الأخلاق والدين والعائلة وغرب متفلت من الدين والأخلاق والعائلة، حرب ترسو في نهايتها أركان نظام عالمي جديد تأمل روسيا ومن معها من أصدقاء ان يكون تعدّدياً.
وبذلك باتت روسيا ومن معها خلف الستار تدرك أهمية هذه الحرب وما سيترتب عليها عالمياً لذلك انطلقت في عملية تحشيد القوى واستدعت دفعة أولى من الاحتياط (300 ألف عسكري) وأعادت تنظيم القيادة العسكرية الميدانية في أوكرانيا، واستعانت بتشكيلات من القوات الخاصة والشركات الأمنية المحترفة (فاغنر) وجهزت قواتها لاستعمال أسلحتها المتطورة الهامة ودعمت منظومتها التسليحية بأسلحة من متطورة من الأصدقاء (مسيرات إيرانية) وعلقت مشاركتها في معاهدة ستارت 3 المعاهدة لتوحي بأنها قد تلجأ الى استعمال السلاح النووي بعيداً عن عين أميركا التي توليها المعاهدة الحق بتفتيش سنوي 18 مرة للمنشآت النووية الروسية ذات الصلة بالأسلحة النووية البعيدة المدى، والآن بين التحضيرين ما هو المرتقب؟
بعيداً عن الحرب النفسية والسجال الإعلامي، فإننا نرى أن حرب أوكرانيا على عتبة الدخول في مرحلة جديدة قاسية قد يكون الربيع المقبل زمانها وقد تكون وطأتها على الجانبين ثقيلة جداً لكن نتائجها ستكون برأينا محكومة بالمحدّدات التالية:
1 ـ صعوبة الحسم العسكري لصالح أيّ من الطرفين خلال الأشهر المقبلة، وأعني الحسم الذي يقتاد الطرف الآخر الى أحد الانهيارين المعنوي الإدراكي او المادي الميداني الذي يضطره الى الخروج من الميدان مستسلماً، وبالتالي فإنّ نهاية هذه الحرب لن تكون إلا بتفاوض يراعي ما يسجل في الميدان.
2 ـ صعوبة استمرار أوروبا بتحمّل تبعات حرب استنزاف مفتوحة، حيث انّ الاتحاد الأوروبي وبعد سنة واحدة فقط بدأ يئنّ من التراجع الاقتصادي ومن ثقل حجم المساعدات التي يفرض عليه تقديمها لكييف، الأمر الذي سيؤثر حتماً على قدرات الأخيرة العسكرية بشكل يحرمها من القدرات الهجومية التي حلمت بها ويبقيها في أطر دفاعية محدودة غير مستقرة.
3 ـ حتمية سعي روسيا لاحتلال موقع «غير المهزوم» على الأقلّ وبشكل يمكنها من الاحتفاظ بمكتسباتها التي حققتها حتى الآن والتي تأمل بتحقيقها حتى الصيف المقبل، وأقلها انتزاع الاعتراف بضمّ القرم والمقاطعات الشرقية والجنوبية الأربع التي أعلنت انضمامها للاتحاد الروسي.
4 ـ اضطرار أميركا في نهاية المطاف وبعد ان تفشل في حرب استنزاف روسيا، لاختيار سلوك من اثنين: القبول بالتفاوض لإنهاء الأزمة، او التدخل العسكري المباشر بعد ان تلمّس خطورة انهيار الجيش الأوكراني مع من يؤازره من مرتزقة، ويبدو أنّ زيلينسكي يتخوّف من هذا الاحتمال ولهذا وصف الوضع منذ يومين بأنه «صعب للغاية». ونحن نرجح الخيار الأول وقد بدأ يمهّد له كلّ من ماكرون وشولتس اللذين أبلغا زيلينسكي أنه «بحاجة لبدء النظر بمحادثات سلام».
5 ـ استعمال السلاح النووي سيبقى أمراً موضوعاً على الطاولة الروسية، كما سيبقى زجّ وحدات وأسلحة روسية جديدة ذات فعالية عالية في ذهن القيادة الروسية بشكل يمنع تحقق أيّ من أهداف أميركا لتحطيم روسيا او تفكيكها.
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى