أولى

مصير تيار على يد وريث !

‭}‬ د. عدنان منصور*
مشكلة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل أنه ترعرع في جلباب عمّه العماد والرئيس.
انتهز القرابة والرئاسة ليجهّز نفسه كي يضطلع بدور قيادي متميّز وحيد، دون منازع على الصعيد المسيحي والوطني، مغتنماً فرصة عونية ثمينة، كانت بتصرّفه، وتحت إشارته في كلّ صغيرة وكبيرة، ليحقق من خلالها هدفه المستقبلي المرتجى وهو رئاسة الجمهورية.
صال وجال، واستخدم النفوذ، والسلطة، وأدار الجمهورية على هواه وهوى التيار، من وراء الستار، مستغلاً الفرصة بوجوده الى جانب العمّ الرئيس، الذي أحاطه بثقة كاملة ما بعدها ثقة، لا حدود لها، ولم يعطها لغيره من الأقرباء أو المقرّبين له. بهذه الثقة أصبح جبران باسيل «المفوض السامي» والآمر والناهي داخل تياره، والمعارض الشرس والرافض لأيّ قرار إنْ لم يتوافق مع طموحاته وتوجهاته، ومواقفه، دون اكتراثه، وعدم الأخذ بالاعتبار معارضة قيادات سياسية داخل طائفته وخارجها.
قد يعلم جبران باسيل أو لا يعلم، أنّ الزعامة الحقيقية البنّاءة على الأرض، لا تتأتى من شكليات التوريث أو التجيير، ولا تفعل فعلها، إنْ لم تكن كاريزما الزعامة متوفرة، وجديرة بمن يتولاها. وهي للأسف ليست متوفرة فيه رغم كلّ التجييش والهالة والبروباغندا الإعلامية التي أحاط نفسه بها، لا سيما بعد أن أسدل الستار على مسرح رئاسة العمّ الرئيس، وخاب أمله في أن يحلّ مكانه بعد أن انتهت ولايته. كما لم يستطع أن يحافظ على تماسك التيار ووحدته، وان يتجنّب التنافس الحادّ، والانقسامات، و»العداوات» داخله، التي أثرت على وحدة الصف والهدف للتيار.
الوجوه اللامعة في التيار التي كانت تأخذ بالاعتبار وجود الرئيس العماد في سدة الحكم، وتقدّر مسيرته وتحترم إرادته، جعلها تساير وتتماشى مع جبران باسيل في أمور كثيرة، وتغضّ الطرف عن أخطاء وهفوات كثيرة، تقديراً ووفاء للرئيس، الى أن وجدت نفسها مضطرة حفاظاً على ماء وجهها لمغادرة التيار، تاركة رئيسه يفعل ما يريد، ويتصرّف على هواه وكيف ما شاء.
لكن وضع جبران باسيل اليوم، ليس كما كان أثناء ولاية عمّه الرئيس، الآمر الناهي، والرئيس «الظلّ» صاحب القرار. لا شك في أنه يتحمّل المسؤولية الكاملة عن تراجع التيار بسبب طريقة التعاطي مع الآخرين، والعنجهية، وفائض الثقة بنفسه، وأيضاً اقتناعه بوهم دوره القيادي الذي لا مثيل له…
كثيرة هي الأخطاء التي وقع فيها جبران باسيل أثناء تقلده المناصب الوزارية، لا سيما في علاقاته مع «أعدائه» قبل «أصدقائه». من يراقب خطواته ونهجه، وطريقة تعاطيه مع الآخرين، يرى كيف يتصرف غالباً باستعلاء وكيدية، وغرور، وعنجهية، وعصبية، ومحسوبية، ومناطقية. لقد ميّز بين مَن هو في تياره، ومَن هو خارجه، وأبعد واقتصّ من كلّ مَن يعارضه، او ينتقده في السر والعلن. كانت سياساته وأساليبه في إدارة الوزارات لا يحسده عليها كلّ من تتبّع أداءه في داخلها أو خارجها.
نادى بالتغيير والإصلاح، وكان أبعد ما يكون عن تطبيقهما. تدخل بشكل فاضح في التعيينات، والتوظيفات، والمناقلات، والترفيعات. عطّل العديد من القرارات والمراسيم، وأراد أن يختزل القرار المسيحيّ بنفسه ويحصره في تياره، ولم يأخذ بالاعتبار مواقف ومطالب سائر الأطراف الأخرى. لم يكن همّه وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بمعزل عن انتمائه السياسي أو الحزبي، بل آثر تفضيل مصالح تياره، والمحسوبية على الكفاءة، وأصحاب الحظوظ على أصحاب المواهب والعقول.
أخذ جبران باسيل بالاعتبار في الدرجة الأولى مَن هم في تياره، أو مَن هم مقرّبون منه، أكانوا كفوئين، أو وصوليين، أو انتهازيين، أو محظوظين، أو قططاً سمان.
مما لا شك فيه أنّ جبران باسيل ما قبل انتهاء ولاية العمّ الرئيس، ليس كما بعدها. الانحدار والتراجع واضح للعيان، وسيستمرّ، وهو المسؤول الأول عن هذا التراجع. فالعناد الشديد، والتمسك بالرأي، والإصرار على فرض القرار، يجعله محاوراً عنيداً، يصعب على الأطراف المعارضة الأخرى التوصل معه الى حلّ إيجابي أو قرار مشترك بناء .
تعطّشه للسلطة وشهيته للحكم لا تُخفى على أحد ـ وإنْ تعفّف وأبدى عن زهده حوله، ما يدفعه في كلّ مرة إلى تعطيل ايّ حلّ لا يصبّ في صالحه.
مع الوقت سيتراجع حتماً زخم تياره، وهو المسؤول الأول عن ذلك. كثر من المقرّبين له ابتعدوا عنه، وتركوه يحصد أخطاءه، ويتجرّع مرارة تفرّده الى حدّ بعيد بالقرارات، دون أن يدري، أنّ هالة الرئيس العماد، والتأييد الذي أحيط به قبل عودته من «المنفى الفرنسي» وبعدها، والزخم الجماهيري الذي توفر للعائد، لا يتوفر بكلّ تأكيد للصهر العزيز. العماد صنع شعبيته بنفسه، وبعد أن دفع الثمن غالياً، وأصبح زعيماً له وزنه، أرَضيَ أصدقاؤه او رفض خصومه. أما جبران باسيل فقد ورث قيادة التيار على طبق من ذهب، دون أن تشكل قيادته للتيار قيمة مضافة على الصعيد المسيحي والوطني ككل.
قد تورّث الزعامة، أو تجيّر في ظرف ما، لشخص ما، لكن ليس بالضرورة أن يكون الشخص المورث، قيادياً، وزعيماً شعبياً متميّزاً، رفيع المستوى، إنْ لم تكن أسس ومقومات الزعامة الحقيقية متوفرة فيه بالفطرة، والممارسة، والكاريزما، والحنكة، والذكاء، والدهاء والمرونة، وبعد النظر.
الزعامات الحقيقيّة لا تورّث ولا تستنسخ، ولنا في لبنان نماذج كثيرة من التوريث الفاضح الهش، حيث كان الفرق بين ميزات الوارث والموروث، كالفرق بين الثرى والثريا.
كم من وارث للزعامة قام بحماقته «الفطرية»، بتبديد الكثير من الرصيد السياسيّ والشعبيّ للموروث .
هنا يكمن الفرق في زعامة التيار التي تجسّدت في ظرف معيّن بالرئيس العماد، وانتقالها في ما بعد للصهر العتيد، الذي لم يعرف أن ينمّيها ويفعّلها، ويجسّدها كما كان متوقعاً، لينطلق بها بالشكل الذي يعزّز وحدة التيار وتماسكه وانتشاره، واستمرارية بقائه على المدى المتوسط والبعيد.
لكن هل سيبقى زخم التيار على يد جبران باسيل مثل ما كان عليه زمن العم الرئيس! مستقبل الأيام سيقول كلمته.

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى