نقاط على الحروف

فرنسا ونموذج الأزمات ومثال عجز الدولة الحديثة

ناصر قنديل

– يسارع الكثيرون في تبسيط قراءة المشهد الفرنسيّ، فيقول بعضهم إن الأمر له صلة بجحود الوافدين بتقديمات الدولة التي احتضنتهم ومنحتهم جنسيتها، كأنهم يتحدّثون عن وافدين حصلوا بالأمس على الجنسية الفرنسية، ولا يعلمون أن الحديث يجري عن ضواحٍ عمرها وعمر السكن فيها حول المدن الفرنسية يعود إلى عمر الحربين العالميتين الأولى والثانية، عندما بنيت أحياء فقيرة لاستيعاب الجنود الذين خدموا في الجيش الفرنسي خلال الحربين، وكانوا من أبناء المستعمرات الفرنسية التي اعتبرت هي وشعوبها جزءاً من فرنسا ومنحوا الجنسية على هذا الأساس، وأن هذه الأحياء تضم اليوم أحفاد أحفاد هؤلاء الذين ولدوا من آباء وأمهات فرنسيين وأجداد وجدّات فرنسيين، وأن من نتحدث عنهم هم الجيل الرابع والخامس من الجيل الذي بُنيت له هذه الضواحي الفقيرة، والتي لا زالت فقيرة، وكما عومل الأجداد والآباء بصفتهم مواطنين من درجة رابعة وخامسة تمّ التعامل مع الأبناء والأحفاد، وذهب بعض آخر إلى القول بحركة مدبّرة، مشيراً الى أيادٍ تحرّك مشهد الأحداث، متجاهلاً أنه لا يمكن للأيدي المحركة مهما بلغت قدرتها وإمكاناتها خلق الأحداث، وأن سقف ما تستطيعه هو الاستثمار فيها. وهذا ليس واضحاً بعد في فرنسا، كما كان واضحاً في غيرها، حيث كان يرفض أغلب هؤلاء الحديث عن اليد الخارجية وتوظيفها لاستثمار الأحداث والسير بها خارج سياقها الطبيعيّ.
– إذا عدنا إلى المقارنات، لا يمكن لأحد أن يكون ملكياً أكثر من الملك، وفي سورية وإيران مثلاً عندما تمّ إحراق مدنها ومنشآتها، تحدّث هؤلاء عن ثورة يجب أن نتقبل منها ظهور بعض الفوضى، لأن هذه من سمات الثورات، أما الذين قالوا باليد الأجنبية والمؤامرة فلم ينكروا وجود أسباب موضوعيّة تمّ استثمارها، تفسّر المناخ الذي ولدت فيه الأحداث، ومَن يعود لتاريخ ما جرى في سورية وإيران من أحداث، لا بد أن يذكر كلام الرئيس السوري بشار الأسد منذ عام 2011 وبداية الأحداث، وكلمته الشهيرة، إذا شبّهنا التّدخل الخارجي والمؤامرة بالفيروس، فإن تسلّل الفيروس وانتشاره يدلان على أن مناعة الجسم كانت ضعيفة، فلا عذر لنا بالاكتفاء بالحديث عن المؤامرة بل علينا البحث عن نقاط الضعف والثغرات التي سمحت لهذه المؤامرة بالتسلل، وليس خافياً حجم ما بذله الرئيس الأسد من مساعٍ للحوار السياسي والقيام بمبادرات العفو العام وإلغاء المادة الثامنة لملاقاة الأحداث بمبادرات متلاحقة؛ بينما كان من يقفون في الضفة المناوئة يرفعون شعار استقالة الرئيس ويبادرون الى تحويل المشهد إلى مواجهة عسكرية تتسع لتشمل كل الأراضي السورية؛ ومن خلفهم مواقف واضحة ومعلنة من عشرات الدول التي تجاهر بتموضعها وراء ما يجري. بينما نحن لا نشهد في فرنسا الأمرين معاً، لا نشهد مبادرات من الرئاسة والحكومة في فرنسا لملاقاة الاحتجاجات بمشاريع لعلاج الجذور التي أدّت الى الأحداث، وتشكل خلفيتها، ولا نشهد على الضفة المقابلة لا العسكرة ولا التبني والدعم الخارجيين سايسياً وإعلامياً وصولاً الى الدعم العسكري الذي شهدناه في كل من سورية وإيران عبر الحدود والعابر للحدود.
– في إيران سمعنا الإمام السيد علي الخامنئي بعد حادثة وفاة الناشطة مهسا أميني، لا يكتفي بالدعوة للتحقيق وإظهار ملابسات الوفاة، بل دعا بوضوح الى التمييز بين الاحتجاجات التي تحمل مطالب مشروعة وتعبّر عن مطالب ومعاناة اقتصادية واجتماعية، وأحداث الشغب المنظمة التي تهدف الى خلق الفوضى وتخريب المؤسسات ومهاجمة القوى الأمنية، وقد شهدت محافظات إيرانية جماعات مسلحة هاجمت مقار أمنية وقتلت عناصر منها، كما شهدنا حملات خارجية سياسية ودبلوماسية تتحدّث عن ثورة وإسقاط النظام كما حدث في سورية، وجاهرت دول غربية كبرى، منها فرنسا بهذه المواقف، وشهدنا حملات إعلامية منظمة عبر وسائل إعلام عالمية كبرى ووسائل إعلامية تم إنشاؤها في الخارج بدعم غربي وإقليمي بمواكبة الأحداث.
– ما يمثل عنصر التمييز لحجم الموضوعيّ من المدبّر والنسبة بينهما، تقوله نسبة الحراك الشعبي من حضور التنظيمات والتشكيلات المسلّحة من جهة، شعارات إسقاط الدولة من المحتجين من جهة أخرى، ووجود حضانة ظاهرة ومؤثرة من جهات خارجية فاعلة. والمفارقة أن الذين يتحدّثون عن إدانة ما يجري بصفته عملاً تخريبياً همجياً للحضارة الفرنسية، بالاستناد إلى أعمال الحرق التي لا يتمناها ولا يدافع عنها أحد، هم أنفسهم لم يقولوا الكلام نفسه عن حراك أصحاب الستر الصفراء الذي شهد أعمال حرق وتخريب في قلب العاصمة وليس في ضواحيها فقط، فهل يعود السبب الى لون البشرة والشعر والعيون؟
– هذا لا يمنع من أن استمرار الأزمة دون مبادرات إيجابية لاحتواء ومعالجة الجذور، يفتح شهية القوى القادرة على الاستثمار في المشهد الفرنسي في ظل أزمة تعيشها كل دول أوروبا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، على خلفية مشهد المواجهة مع روسيا ونتائج العقوبات وأزمة توريد الطاقة، سواء كان هذا الاستثمار من قوى التطرف اليميني العنصري، أو من قوى التطرف التكفيريّ، او من الاستثمار الأميركي لمنع اي محاولة فرنسية أو اوروبية لحذو حذو السعودية وتركيا، في التموضع خارج بيت الطاعة الأميركي، أو للتغطية بحريق كبير على الحريق الأوكراني للتغطية على فشل خيار الحرب مع روسيا، لكن ذلك رهن مقبل الأيام، مدى جرأة القيادة الفرنسية على سلوك طرق المعالجة سريعاً بمبادرات خلاقة وجريئة، لا تبدو في الأفق، مع تصاعد صيحات الحرب العنصرية.
– الدولة الحديثة ظهرت في الغرب وفي الشرق على السواء عاجزة عن احتواء مكوّناتها المتعددة دينياً وعرقياً، ضمن مفهوم الدولة الوطنية، كما ظهرت هشّة عاجزة في تعاملها مع تداعيات أزمة كورونا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى