نقاط على الحروف

المشروع الغربي وإدارة الموجات الديمغرافية النزوح الفلسطيني والعراقي والسوري

ناصر قنديل

في كلّ مكان حلّ فيه المشروع الغربي ظهرت موجة نزوح بشري، وظهر كيف أن نصف هذا المشروع يقوم على استعمال الجغرافيا الناشئة عن ترحيل الموجات النازحة، والنصف الثاني يقوم على إدارة موجات النزوح. والقراءة الأميركية التي تولت قيادة المشروع الغربي منذ عقود لمشهد المنطقة تقوم أساساً على نظرة ديمغرافية، رغم تفاوت الحلول التي تقترحها تحقيقاً لمصالحها، من هنري كيسنجر الى برنارد لويس، اللذين يختلفان بين خيار إدارة دول رخوة قائمة على توازنات هشّة بين مكوناتها الديمغرافية، أو الذهاب الى كيانات قائمة على خطوط الديمغرافيا بدلاً من خطوط الجغرافيا.
مع نشوء كيان الاحتلال في فلسطين، رعا الغرب موجات نزوح مثّلت العنوان الرديف للقضية الفلسطينية إلى جانب قضية الاحتلال، وعبّر القرار 181 الصادر عام 1947 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عن قضية الاحتلال وكيفية التعامل معها عبر قرار التقسيم، بينما عبّر القرار 194 عن الوجه الثاني للقضية الفلسطينية وهو قضية اللاجئين عبر القرار 194 الصادر عام 1948 عبر ضمان حق العودة. وكما كان أحد اهتمامات المشروع الغربي معاونة المستوطنين على السيطرة على الجغرافيا الفلسطينية التي تمّ إخلاؤها من السكان، كان الاهتمام الرديف للمشروع الغربي هو كيفية إدارة موجات النزوح الفلسطيني، خصوصاً ما ظهر لاحقاً في كيفية تفجير كيانات كل من الأردن ولبنان، من جهة، وطرح مشروع التوطين من جهة مقابلة.
خلال حرب احتلال أميركا للعراق، حدث شيء مشابه، حيث تركز الضغط العسكري الأميركي الوحشي على مناطق غرب العراق، وتمّ دفع سكانها للنزوح باتجاه سورية، التي استوعبت قرابة المليوني لاجئ عراقي. وقد شكل الدفع باتجاه تفجير العراق مذهبياً عنوان المشروع الأميركي في العراق، عبر الاستثمار على خطوط التماس المذهبية والإفادة من الاختلال الديمغرافي الموجود أصلاً والمتصاعد بقوة النزوح. لكن الوجه الثاني لهذا المشروع كان الاستعداد لاستثمار موجات النزوح لخلق مناخات تفجير سورية لاحقاً، وقد ظهر أن مناطق تركيز النزوح العراقي، تحوّلت إلى بيئات للجماعات التي تدور في فلك فطر تنظيم القاعدة، تحت شعار مقاومة الاحتلال، حيث ولد تنظيم نصرة الجهاد في بلاد الشام، الذي تحوّل مع انطلاق مشروع تفجير سورية إلى تنظيم جبهة النصرة. وكانت التركيبة العراقية السورية للتنظيم من ثمار هذا الاستثمار، التي ورثها تنظيم داعش عند انشقاقه عن النصرة، بصفته تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق.
خلال خوض المشروع الأميركي لحربه على سورية، كان ظاهراً السعي لدفع موجات من النزوح نحو لبنان والأردن خصوصاً، حيث تُقدَّم الإغراءات لسكان مناطق لا أحداث أمنية فيها للالتحاق بمخيمات النازحين لقاء الحصول على أموال تحدث فرقاً لدى مقارنتها بقدرتها الشرائية بالليرة السورية. وكان من الظاهر أيضاً أن نسبة تزيد عن نصف هؤلاء النازحين تتنقل بين لبنان وسورية، تقبض في لبنان وتنفق في سورية، ما يسقط مزاعم العلاقة بين الوضع في سورية وحالة النزوح، ولا يزال الحال قائماً حتى تاريخه. ومثلما ظهر أن أحد أهداف التشجيع على النزوح، ومثله التشجيع على الهجرة المنتقاة نحو الدول الغربية، هو خلق مناطق في سورية يصعب العثور فيها على الاختلاط الطائفي، بخلاف ما كانت عليه حالة المناطق السورية على مدى عقود من الاختلاط، فإن تهيئة الديموغرافيا السورية لتقبّل فكرة التقسيم كانت حاضرة، وفكرة إدارة جموع النازحين في لبنان خصوصاً، حيث ثقل المقاومة التي يضعها المشروع الأميركيّ على رأس لائحة الاستهداف، من خلال تأجيج التدافع نحو نيل شروط العيش بين اللبنانيين والنازحين السوريين. وقد شهدت تركيا التي كانت تقود نسبة كبيرة من الحرب، رغم ضخامة عدد سكانها بالقياس لعدد النازحين السوريين، ورغم حجم قدرة اقتصادها على تحمّل تبعات النزوح السوري مقارنة بلبنان، تعبيراً حياً عن النتائج التصادمية لمثل هذا التزاحم والتدافع.
مع تفاقم ظاهرة النزوح تموضعت القوى السياسية المختلفة خلف موقف نظري واحد يدعو الى رفض النزوح، لكن لا زالت نسبة وازنة من القوى السياسية ترفض اعتماد طريق التفاهم مع الدولة السورية لضمان عودة النازحين، ولا زالت نسبة غير قليلة من وزارات الدولة تفرح بفتات التعويضات الذي يصلها لتقديم الخدمات للنازحين السوريين، ولا زالت جمعيات مرخصة وغير مرخصة تعتاش على التمويل الذي يأتيها باسم رعاية النازحين، كما قال الأمن العام. والأمم المتحدة تحرّض على التوطين علناً، وأوروبا بخلفيات عنصرية ترفض أن يتجه بعض النزوح اليها، وبوقاحة تتهم لبنان بالعنصرية لأنه يعلن عجزه عن إدارة أزمة النزوح.
ما دام الغرب قادراً على عرقلة عودة النازحين إلى بلادهم، فإن المعالجة السياسية الصحيحة هي بإدارة موجات النزوح بطريقة عكسية، واعتماد إعادة توجيه النزوح نحو الدول الغربية، وأوروبا هي الأقرب، وهي وجهة جدّية للنازحين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى