الهذيان «الإسرائيلي» مع سوء التقدير العسكري
} نمر أبي ديب
ليست المرة الأولى التي يدخل فيها الكيان الإسرائيلي مرحلة «الهذيان السياسي، مع سوء التقدير العسكري»، الذي بدا واضحاً في سلوكيات ونواحي عديدة من بينها بيان الجيش الإسرائيلي، الذي أكَّد أنّ العملية البرية سوف يتمّ إلغائها إذا أطلقت حماس سراح المحتجزين واستسلمت دون قيد أو شرط، وأيضاً في تراجع كيان الاحتلال عن فرضية الاجتياح البري والاستعاضة عنها بالإعلان عن تنفيذ عمليات برية محدودة، لا أفق زمني لنهايتها، الهدف منها الحفاظ على حدّ أدنى من مظهر القوة المرفقة بإنجازات شكلية، فـ «إسرائيل» لم تعد تحتمل الحدّ الأدنى من مفاعيل التراجع الأمني وحتى العسكري في زمن التحوّلات الكبرى والمتغيِّرات، التي أكّدت فيها التجارب الإقليمية والدولية على غياب العوامل الضامنة لأسس بقاء الكيان والاستمرارية، لكنها المرة الأولى التي تقابل فيها «ضعف الكيان»، مع فائض القوة الفلسطينية، القادرة على قلب المعادلات الميدانية وإحداث متغيّرات جوهرية في بنية التوازنات العسكرية التي فرضتها في مراحل سابقة طبيعة الصراع من جهة، وقواعد الاشتباك الفلسطيني الاسرائيلي من جهة أخرى.
لم يقرأ العالم بعد كامل «الحقيقة الميدانية»، التي كشف طوفان الأقصى بعضاً من فصولها العسكرية بالتزامن مع جملة المتغيّرات العسكرية والأمنية، التي أحدثتها حرب غزة حتى اللحظة، والحديث يتناول «عجز إسرائيل» عن تحقيق أيّ مكسب سياسي استراتيجي، أو حتى عسكري خارج إطار التدمير المستمرّ، والدموية، التي ينفرد فيها كيان الاحتلال، كما لم يقرأ البعض أيضاً على الساحتين الإقليمية منها والعالمي، تحديداً المحور الأميركي، الثقل الوجودي المُهيمِن على المرحلة الحالية، الذي ألغى من حسابات القوى المعنية بـ «ولادة الشرق الأوسط الجديد» «فكرة الهزيمة»، في مراحل أكثر من مصيرية لا تحتمل فيها القوى العالمية مجتمعة مبدأ المراوحة العسكرية في حرب غزة وغيرها من الجبهات المعلنة على الساحة الإقليمية/ الدولية وغير المعلنة.
طرح الجيش الإسرائيلي معادلة «استسلام حماس» دون قيد أو شرط مقابل وقف العملية البرية استغباء عسكري إسرائيلي للداخل «العبري» قبل الخارج الفلسطيني الذي نجح حتى اللحظة في «إسقاط» ورقة «العملية البرية» الشاملة، وهذا ما أكَّدت عليه صحيفة «معاريف» حين أشارت إلى أنّ خطط الجيش السرائيلي للعملية البرية تغيّرت بشكل واضح وكبير.
ما جرى حتى اللحظة محاولات «صهيو أميركية» الهدف منها إبعاد «شبهة الترهُّل» العسكري والأمني عن إسرائيل ووضع كيان الاحتلال في خانة المسيطر الأول والأوحد، على مفاصل الحدث الفلسطيني، وهنا تجدر الإشارة إلى عوامل عديدة أبرزها: التفوّق الذي بلغته حركة حماس في اللحظات الأولى لعملية «طوفان الأقصى»، والجميع يدرك حتى «إسرائيل» نفسها أنّ «تثبيت التحول العسكري» الذي فرضته عملية طوفان الأقصى، لا يمكن أن يتمّ بعد الحرب المدمرة التي تشهدها غزة «سوى في غزة نفسها» بالتالي هل يمنح كيان الاحتلال حماس، فرصة الالتحام المباشر، وتثبيت مبدأ التحوُّل الإقليمي بتسجيل انتصار استراتيجي ذات طابع وجودي، على «إسرائيل» والمحور الداعم والمؤيد لسياستها العدوانية ودورها الإقليمي، أم يتدرّج المشهد الفلسطيني ضمن توغلات محدودة يتربع من خلالها الفشل الإسرائيلي على «قمة العجز العسكري» لكيان الاحتلال ويسجَّل لحركة حماس انتصار استثنائي في معركة الوجود الأولى، وللكيان الإسرائيلي خروج تدريجي من معادلة المتوسط الجديدة.
ما بين «خطأ بنيامين نتنياهو والاعتذار»، وبين «تأكيد الولايات المتحدة الأميركية على وقف «إسرائيل» خطط غزو بري واسع النطاق لمدينة غزة، واستبدالها بتوغلات برية محدودة، تتماشى في الشكل السياسي مع اقتراح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، تأكيد إضافي على عاملين :
ـ حجم الفوضى الداخلية التي يعيشها كيان الاحتلال في هذه المرحلة، إضافة إلى التخبّط السياسي كما العسكري والأمني الذي أفقد «إسرائيل» القدرة على اتخاذ القرار، كما الرؤية الواضحة لما يمكن أن يكون عليه «المشهد الفلسطيني» في الأيام والمراحل المقبلة.
ـ الشراكة الأميركية في حرب غزة، القائمة على دعم مطلق تقدّمه الولايات المتحدة الأميركية كما في مجمل حروب «إسرائيل»، مع فارق استراتيجي تمثَّل في نوعية حرب اليوم، ببعدها الوجودي، وسقفها الإقليمي. أيضاً مع ما تتضمّنه للمرة الأولى من تقاسم كامل للأرباح وحتى للخسائر العسكرية، التي لم ولن ينأى أحد ضمن الفريق الداعم والمؤيد لـ «إسرائيل» من نتائجها المباشرة ومفاعيلها الاستراتيجية.
ما تقدّم، أضاف على صفحات النتيجة السياسية وحتى العسكرية التي خلَّفها طوفان الأقصى، إشارات واضحة فرضت على كيان الاحتلال واقعاً استثنائياً لا يمكن من خلاله العيش خارج إطار الحاضنة الدولية، المرفقة بالدعم الأميركي الكامل والحضور العسكري المباشر.