أولى

الحركة خير من القعود…

‭}‬ بشارة مرهج*
بعد الاطلاع الجزئي على المعلومات المتراكمة المتصلة بممارسات البنك المركزي وحاكمه السابق رياض سلامة ومعهما مجموعة المصارف اللبنانية بأكثريتها الساحقة، فلن نجد الكلمات التي تعبّر عن الحقيقة المرة أو تكشف جانباً منها. فقد تبيّن بعد المعاينة أنّ الممارسات الفظيعة، المغايرة لكلّ قانون لبناني أو عرف أخلاقي، كانت تجري في الظلام، كما في وضح النهار، تحت غطاء السرية المصرفية.
وما كان يقع خارج إطار هذه السرية المصرفية من أعمال مشابهة كان غامضاً ملتبساً يصعب تتبّعه. أما ما كان مبعثراً من حسابات ومعلومات، بحكم مقتضيات العمل اليومي، فقد كان يُحجَب عمداً عن السلطات المختصة أو هيئات الرقابة بسلاح الأمر الواقع، حيث كان حاكم البنك المركزي يدير أذنه الطرشاء الى كلّ ما كان يُطلب منه مستهتراً بكلّ ما كان يدينه، مستنداً في كلّ ذلك الى السلطات الواسعة التي يتمتع بها بموجب قانون النقد والتسليف، أو بموجب التفويض المشبوه الذي وفره له تحالف المال والميليشيات. هذا التحالف الذي رعى الفساد وحوّله الى مؤسسة ضاربة الجذور في الإدارة اللبنانية كما في الحياة السياسية العامة.
ولا غرابة إذ أنّ الحاكم المتعالي على كلّ أركان السلطة كان يرأس البنك المركزي بصلاحيات مطلقة، الى جانب رئاسته أو إشرافه المباشر على كلّ من لجنة الرقابة على المصارف، هيئة التحقيق الخاصة، هيئة الأسواق المالية، الهيئة المصرفية العليا، أيّ أنه كان المدّعي والمدّعى عليه والحاكم في آن مما عطل عملية المراقبة والمحاسبة تعطيلاً عاماً، فضلاً عن إتاحة المجال أمامه لاحتكار المعلومات وتضليل الرأي العام وتزويده بمعلومات غامضة متشابكة حتى لا يستطيع أحد اكتشاف الحقيقة أو تلمّسها. ومما ساعد على زيادة مساحة التضليل والغموض في آن الدور الذي لعبه الإعلام المنحاز المشمول بدولار الحاكم وشبكاته الواسعة التي طالت كلّ القطاعات الرسمية والدينية والعسكرية والقضائية وسواها من الهيئات والفئات، بحيث أصبحت الحقيقة مغطاة بغلالة متلألئة تعمي الأبصار وتبث نوعاً من الخدر يفردها من شارك في قالب الجبنة الذي كان يتغذى من أموال المودعين، كما من الأموال العامة التي كان يُتاح للحاكم التغوّل عليها، خاصة أموال المؤسسات الكبرى التي يتولى قيادتها وإدارتها كشركة طيران الشرق الأوسط وإنترا وكازينو لبنان وذلك عبر موظفين مغمورين يعملون لديه ويوسعون دائرة نفوذه مقابل رفعه الرقابة عنهم وإطلاق أيديهم.
وعندما نطلع جزئياً على قيمة القروض المدعومة أو العشوائية التي قدّمها الحاكم لأصحابه وأعضاء شبكته الخاصة والمنظومة الحاكمة، فضلاً عن المؤسسات الإعلامية والتجارية والاستثمارية يمكننا إدراك مدى نفوذه وشمول سلطته بمعرفته ومواقفه من يدّعون إدارة شؤون الدولة وترتيب ماليتها وإعداد موازنتها وصرف أموالها.
هذه الصورة الصارخة التي لم توجد في لبنان من قبل والتي لم نسمع بوجودها في أيّ بلد آخر هي التي تفسّر لنا اليوم كما بالأمس تسابق السلطات المتعدّدة على حماية رياض سلامة وتأخير التحقيقات معه ومنع المحاكمة عنه تحت أسباب واهية.
واليوم رغم الحرب الظالمة على غزة ورغم الظروف الصعبة التي نمرّ بها محلياً وإقليمياً ودولياً ترفض الدولة الكاذبة اتخاذ إجراء إصلاحي واحد لمعالجة الأمور ولو جزئياً، وبدلاً من ذلك تلجأ الى التسوّل والاستجداء من العربي والأجنبي، كما تبادر إلى فرض الضرائب على المتضرّرين من اللبنانيين وتخفيضها على المستفيدين والمسبّبين للكارثة التي نعيش، غير عابئة بما يجري من متغيّرات إقليمية وتحوّلات عميقة واستقطابات مالية وانهيار للاقتصاد وتفكك لبنى الدولة ومؤسساتها.
إنّ الدولة التي ترغب في إعداد موازنة مترابطة ومتوازنة وتحقيق خطة طوارئ تواكب تطورات الحرب الضارية على غزة البطلة، لا يمكنها إنجاز كلّ ذلك بفرض رسوم وضرائب باهظة على مواطنين سلبتهم أموالهم وأهملت مصالحهم وهتكت كراماتهم.
الطريق لتحقيق ذلك يكون بإجراء الإصلاحات وإحياء القضاء المشلول والانتقال الى منهج اقتصادي تقدّمي يعيد إنتاج الثروة وتوزيعها على قواعد العدالة والاستحقاق، فضلاً عن ملاحقة المختلسين والطفيليين الذين ملأوا جيوبهم العفنة من أموال الناس والدولة وفي طليعتهم حاكم مصرف لبنان السابق ومجموعاته التي تسرح وتمرح وتعطي الدروس بالتملق والانتهازية مستفيدة من الخلل الذي يعتري الجسم القضائي لعرقلة مسيرة العدالة والإفلات من العقاب.
فلو كانت الحكومة حريصة على الاقتصاد ومصلحة المواطنين لاجتهدت في سبيل استعادة الأموال المنهوبة وإيداعها في صندوق خاص بما يحيي الرجاء لدى المظلومين والمودعين ويستعيد جزءاً من الثقة المفقودة في الاقتصاد والدولة.
فكم من وزير أو نائب ذهب الى فرنسا بهدف العمل على استرجاع الأموال الموجودة لدى السلطات الفرنسية بعدما صادرتها من رياض سلامة وبعض المقرّبين منه؟
بالأمس تقدّم عضو مجلس الشيوخ الفرنسي جويل غيريو باقتراح قانون أمام المجلس يُلزم القضاء الفرنسي بإعادة الأموال التي صادرها من سلامة وشركائه الى الشعب اللبناني، فلماذا لا تتحرك الحكومة ومجلس النواب للاتصال بأعضاء مجلس الشيوخ وأعضاء المجلس النيابي الفرنسي – وصولاً الى الأتحاد الأوروبي – والطلب إليهم مساعدة الشعب اللبناني على استعادة المتوفر من حقوقه في هذه اللحظة بدل الاقتصار على طلب المساعدات والإعانات؟
لنا أموال في فرنسا وسويسرا وبريطانيا واللوكسمبورغ وألمانيا والولايات المتحدة، فلماذا نتغافل عنها تحت هذه الحجة أو تلك؟! هل يخاف المعنيون من متابعة هذا الموضوع وغيره من المواضيع الإصلاحية أن تتدحرج كرة الثلج فتصيب كلّ من بغى واختلس وتواطأ؟! أما إذا كانوا لا يخافون من المتابعة فماذا يؤخرهم عن المبادرة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى