أولى

حضور الأصيل أربك الوكلاء

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
ما يزال الجميع يذكر الهياج والسعار الذي أصاب إدارة بايدن مع الساعات الأولى لانطلاق ملحمة طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول الماضي، ولا أحسب أن الذاكرة الجمعيّة فقدت تفاصيل مسرحية توزيع الأدوار والتباكي لنجدة الكيان الإسرائيلي الذي ظهر بكل مكوناته وكأنه مظلوم ومكلوم ويتيم وعاجز، وهو الظالم والمجرم ومُيَتّم ملايين الأطفال والقاتل الغارق بدماء الأبرياء منذ ما قبل إنشائه وزرعه بالقوة فوق الجغرافيا الفلسطينية. ومع ذلك تقاطرت البوارج والمدمرات وحاملات الطائرات، وأطلقت التهديدات مباشرة ومداورة، وكأن الغزاويّين قد هدموا المعبد بكليته فوق رؤوس الكهنة والمشعوذين، ولعل اللوحة الأكثر فظاظة وغنى بالمضامين كانت مجسّدة بزحمة حضور المسؤولين الأميركيين بدءاً بشاغل البيت الأبيض ومروراً بوزير خارجيته وحربه وجنرالاته والمسؤولين الأمنيين وغيرهم ممن تناوبوا الحضور في غرفة العمليات للإشراف على سير الأعمال القتاليّة وضمان بلوغ الأهداف المعلن عنها بأقصر وقت ممكن، وبما ينسجم والأجندة الأميركية اللاهثة لاستعادة الهيبة المتآكلة جراء إخفاقات متتالية استندت في جوهرها إلى الاستهتار بقدرات الآخرين ممن تبنّوا النهج المقاوم المؤمن بالقدرة على إيلام الجلاد وتعكير مزاجه بمنعه من الاستمرار ببتر الرقاب ووأد كلّ صاحب صوت يفكر بالخروج على الطاعة الأميركية، أو التفكير بالتمرّد بأيّ شكل كان على إرادة أنصار القوة والقوة فقط، وبما يتناقض وكلّ ما له علاقة بأعراف المجتمع الإنساني والقانون الدولي.
الحضور الأميركي المباشر بثقله الجيوبولتيكي الضاغط أربك جميع الوكلاء الرئيسيين والثانويين، بما في ذلك الوحش المجروح والنازف بغزارة لم تكن تخطر على ذهن أحد، كما أنّ المستوى غير المسبوق من إعلان العدوانية الأميركية والتبني المطلق للسردية الإسرائيلية أفرز جواً من الحذر والإحساس العالي بالمسؤولية لدى بقية الأطراف الفاعلة والمؤثرة في تطور الأحداث وتداعياتها المفتوحة على المجهول، وبقي القرار عند الجميع مرتكزاً على مفرزات الميدان بوصفه الميزان والبوصلة التي على ضوء مؤشرها الأحمر تبنى قرارات الصديق والعدو بآن معاً، ومضت الأسابيع تباعاً والوحشية الإسرائيلية المدعومة أميركياً وأطلسياً تزداد شراسة وإجراماً، ودماء أطفال غزة تزداد قدرة في توضيح معالم الصورة على حقيقتها وإيصالها إلى الرأي العام العالمي، وبكفاءة عالية تمكّن الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية بالتكامل مع المشرفين على هندسة الصورة التي يتمّ تصديرها للعالم من تغيير البوصلة، وظهرت السردية الإسرائيلية هشّة فجّة فاقدة كلّ مقومات المصداقية، وهذا لم يأتِ من فراغ، بل له عوامله وأسبابه التي لا يمكن تجاهلها، ومن المهم الإشارة في هذا السياق إلى عدد من النقاط والعناوين التي تساعد على فهم الواقع المتشكل وتسلط الضوء على قادم الأيام، وإن كانت اللوحة ما تزال مفتوحة على مجموعة من الاحتمالات الخطيرة التي تواجه الجميع، ومن أهم تلك العناوين ما يلي:
ـ هول الصدمة التي طالت الإسرائيلي والأميركي في السابع من تشرين الأول بكل مضامينها ومنحنياتها المعروف منها والذي ما بقي مجهولاً، وسيكون صادماً بعد أن تضع الحرب أوزارها.
ـ التوقيت القاتل، فقبيل إتمام متطلبات إعادة تشكيل المسرح عملياتياً واستراتيجياً لتتويج واشنطن بالفوز وكسب الرهان وفرض الشرق الأوسط الجديد وفق الرؤية الأميركيّة جاءت ملحمة طوفان الأقصى لتعصف بكل ما تمّ إعداده وتجهيزه وتضع كل الآمال باستعادة إحكام القبضة على شعوب المنطقة ودولها في مهب الريح والعواصف.
ـ القلق والتوتر والاضطراب في كلّ خطوة يتمّ اعتمادها في الكابينيت الإسرائيلي المصغر، وقد يكون للحضور الأميركيّ المباشر في الجلسات التي تتخذ فيها القرارات الكبرى دور أساسيّ في زيادة الاضطراب والتوتر الذي حكم واشنطن وتل أبيب لأن:
أ ـ واشنطن دخلت بكل ثقلها، وبالتالي أي إخفاق ستحمل مسؤوليته طالما أنه لا يتمّ اعتماد أي قرار إلا بموافقتها، وهذا يدفع بشكل تلقائي إلى الموافقة على ما تريده تل أبيب كيلا يتذرّع نتنياهو بأن التحفظ الأميركي هو الذي تسبب بالإخفاق.
ب ـ اشتداد حدة الخلافات في الداخل الإسرائيلي الذي رفع سقف المطالبة بالانتقام أكثر من أشد المتعصبين في حكومة نتنياهو، وهذا ما دفع بالعديد من القرارات لتكون مستندة إلى عامل الانتقام والغضب وبعيداً عن الموازنة والمحاكمة المسؤولة المطلوب اعتماها في مثل هذه الحالات.
ـ السقف المرفوع كثيراً للأهداف المعلنة، وتناقضه مع معطيات الواقع المحكوم بعوامل قوة ذاتية وموضوعية امتلكتها المقاومة، وغضّ البصر عنها لا يلغيها، بل يساعد المقاومين على الاستثمار الأمثل فيها، وهذا ما حدث.
ـ المهنيّة العالية والتحكم الدقيق في تفاصيل الصورة التي تخرج للإعلام والرأي العام الداخلي والإقليمية والعالمي، وبخاصة ما يتعلق بالأسرى، وتفنيد الرواية الإسرائيلية جملة وتفصيلاً، ولا سيما ما يتعلق بتكذيب ادعاءات جيش الاحتلال بفرض السيطرة على شمال غزة.
ـ المسؤولية العالية التي رافقت عمل المناصرين للمنطق والحق الفلسطيني، وتكامل الجهود المتضافرة لإيصال صورة مقنعة للرأي العام العالمي، وكأن جبهة منسقة الجهود تقود العمل الإعلامي الذي كان في الحقيقة ذاتياً وعفوياً وموضوعياً.
ـ التعاطف الشعبي الكبير في العديد من دول العالم ولا سيّما في أميركا وأوروبا زاد من الضغوط على الأصيل الأميركي الذي أخذ على عاتقه قيادة الحرب، وعلى الوكيل الإسرائيلي المتخبّط في التعامل مع التداعيات.
ـ لجوء واشنطن لاستخدام الفيتو أول مرة لمنع وقف إطلاق النار أدّى رسالة عكسية، وبخاصة عندما ترافق مع استخدام الفيتو أيضاً من قبل فرنسا وبريطانيا فظهرت صورة مغايرة مضمونها التوحش الأميركي لاستعادة التفرد بالقطبية الدولية.
ـ لتلافي الثغرة السابقة استخدمت واشنطن الفيتو ثانية وتحفظت بريطانيا فوصلت رسالة مفادها أن واشنطن ضد العالم كله، أي أن العالم كله ضد الوحشية الإسرائيلية المنفلتة من كل عقال.
خلاصة
لن يطول الوقت حتى يسمع العالم نبرة جديدة تطالب بالجنوح نحو التفاوض بخصوص الأسرى أولاً، ليكون ذلك مقدّمة لتبريد الصفائح الساخنة بعدما تأكّدت واشنطن أنّ اشتعال المنطقة بكليّتها أمر ممكن الحدوث في أي لحظة، ولن تكون النتيجة النهائية لصالحها، بل ستصبّ في رصيد موسكو وبكين، وهذا أكثر ما يؤلم الإدارة الأميركية، فلا الصراخ العالي، ولا التهديد والوعيد قابلين للصرف في سوق التداول الذي أفرزه نهج المقاومة التي لا تساوم على كرامة ولا تتعامل بردود الأفعال، بل بكل دقة ومهنيّة ومسؤوليّة، ومقبل الأيام كفيل بتوضيح الكثير مما يبدو اليوم ضبابياً وغير مفهوم.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك
والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى