نقاط على الحروف

ماذا تعرض واشنطن ويرفض نتنياهو؟

ناصر قنديل

يبدو الكلام سريالياً عندما نقول إن الرئيس الأميركي جو بايدن ليس جدياً على الإطلاق في السعي لحل الدولتين الذي يصرّح به صباحاً ومساء، وأنه في الوقت ذاته على أعلى درجات الجدية في جعل مشروع حل الدولتين عموداً فقرياً للمشروع الأميركي لإنهاء الحرب في غزة، وأنه في الوقت الذي لا يختلف بايدن عن بنيامين نتنياهو ولا معه لجهة التمسك بالحفاظ على القدس عاصمة موحّدة لكيان الاحتلال وحماية المستوطنات في الضفة الغربية تحت سيطرة الاحتلال، ومثلها غور الأردن، لكنه يختلف معه كثيراً في الاعتقاد أنه بات مستحيلاً الفوز بالحرب العسكرية، وأنه لا بد من مناورة سياسية كبرى تُعيد خلط الأوراق، وتنقل المأزق الذي يخيم فوق رأسي أميركا و»إسرائيل»، الى الضفة المقابلة التي تشمل الفلسطينيين بكل مكوناتهم السياسية، وخصوصاً السلطة الفلسطينية وحركة حماس، ثم بينهما وبين المحيط العربي الصديق لواشنطن وخصوصاً مصر والسعودية.
من زاوية النظر الأميركية أن الهزيمة العسكرية وقعت، وأن العزلة الدولية وقعت أيضاً، ولكنها تعتقد أن استرداد زمام المبادرة السياسي والعسكري، وتعويض الخسائر واحتواء المأزق أمر ممكن. وجوهر ما تتبناه واشنطن يقوم على السعي لتقديم التطبيع مع السعودية كثمن يستحق القبول بمبدأ حل الدولتين، والسعي لتعزيز السلطة الفلسطينية بوجه حماس وقوى المقاومة. وتعتقد واشنطن أنه بدلاً من صيغة المبادرة العربية للسلام التي كان فيها التطبيع جائزة عربية يجري تقديمها لكيان الاحتلال لقاء سلة تتضمن قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 67 وعاصمتها القدس، ثمّة فرصة لتقديم جائزة إسرائيلية للعرب لقاء التطبيع السعودي خصوصاً، والجائزة هي وقف الحرب على غزة ومبدأ دولة فلسطينية دون التزام بحدودها والتعهّد بمصير القدس فيها، والاكتفاء بكونها منزوعة السلاح، وأن «إسرائيل» مستعدّة لتسليم غزة للسلطة الفلسطينية تحت وصاية عربية مصرية سعودية، سوف يضمن مساراً جديداً ينقل المأزق إلى الضفة المقابلة.
يتطلع الأميركيون الى قيادة إسرائيلية تلاقيهم في هذا المشروع لإطلاق ديناميكية تعتقد أنه يتم خلاله بيع وقف حرب فاشلة تحتاج إلى البحث عن مخرج لوقفها، وهذا يعني تقديم لا شيء، بل شراء مخرج مقابل لا شيء، وأنه عبر هذا المشروع سوف يتمّ استرداد ما تمّت خسارته في العلاقات الدولية والشارع الغربي، وفتح الباب الواسع لمفاوضات سعودية إسرائيلية علنية تحت عنوان التطبيع، سوف يمثل إغراء يمنح القيادة الاسرائيلية التي تنجزه ثمناً كافياً تقدمه لمجموع المستوطنين في الكيان كبديل عن النصر الموعود في الحرب، بينما تتمكّن خلاله السعودية من تقديم سيرها بالتطبيع كثمن لاسترداد ما فشل سواها بتحصيله من الحقوق للفلسطينيين، وتتهم خلاله حماس وقوى المقاومة بالعبثيّة والمغامرة، وتشارك السعودية ومصر مع أميركا وأوروبا برعاية مفاوضات إسرائيلية مع السلطة الفلسطينية تحت عنوان حل الدولتين، يجري خلالها تأجيل بحث القدس وحق العودة، واعتبار الانطلاق من حكومة موحدة وأجهزة أمن موحدة تتسلم غزة ومناطق سيطرة السلطة في الضفة نقطة بداية ضرورية، يعقبها مع استقرار الوضع الأمني لسنوات البحث بتوسيع نطاق جغرافية سيطرة السلطة إلى مناطق جديدة، يطرح خلالها تبادل الأراضي بين الضفة والنقب، وإذا كانت مفاوضات تطبيق اتفاق أوسلو استهلكت ثلاثين عاماً فلم لا نستهلك مثلها مجدداً.
نتنياهو ومعه نسبة غير قليلة من ساسة الكيان وقادته العسكريين، يشكّكون بالوردية التي تمثلها السردية الأميركية، ويرون أن دونها عقد كثيرة، أهمها أن حماس وقوى المقاومة تملك قدرة الرفض والتعطيل، وبيدها ورقتان مهمتان؛ الأولى القدرة على مهاجمة قوات الاحتلال في مناطق انتشارها في غزة وبصورة تجعل بقاءها مستحيلاً، وتسليمها لاحقاً للسلطة الفلسطينية مستحيلاً. والثانية ورقة الأسرى التي لن تفرط بها حماس وقوى المقاومة، إذا استشعرت وجود مؤامرة تستهدفها من أي إطار سياسي يفترض ان يتم الإفراج عن الأسرى من ضمنه، ووفقاً لرؤية نتنياهو ومن يؤيده، أن ما سيحدث هو أن «إسرائيل»، سوف تكون قد تنازلت عن رفضها حلّ الدولتين دون أن تحصل على شيء. فالأمن سوف يبقى بيد حماس وقوى المقاومة وكذلك الأسرى، والتطبيع لن يمضي قدماً إلا على إيقاع خطوات عملية على طريق قيام الدولة الفلسطينية، وقضية القدس عقبة كافية لإحراج السعودية والسلطة الفلسطينية ودفعها للتراجع. والحديث عن دولة فلسطينية منزوعة السلاح لا يُبنى عليه شيء، لأن غزة بعد تركها عام 2005 كانت منزوعة السلاح عملياً، باستثناء ما سيكون مسموحاً للدولة الفلسطينية تحت عنوان حفظ الأمن، وهي اليوم ترسانة سلاح نوعي، رغم الحصار، وتجربة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية تقول أنها تضمحل أمام كل من يدعو للمقاومة، لأن المزاج الفلسطيني الشعبي والشبابي، خصوصاً ليس مزاجاً يمكن رشوته بأحاديث السلام.
لا يمانع نتنياهو بالاتفاق على إدارة الحرب بدلاً من تصعيدها، وربطها بأكثر من هدنة يتم خلالها تبادل الأسرى، لكن بديله هو حرب مستمرّة لسنوات، في غزة وعلى جبهة لبنان، لا تصل إلى الحرب الشاملة الا باتفاق أميركي إسرائيلي. وبين هذين المشروعين تدور انقسامات داخل الكيان، وتصاغ تسويات أيضاً بالمقابل، وتستمر الحرب وتحديات جبهة غزة وجبهات المساندة في لبنان والعراق وسورية والبحر الأحمر، بصورة يفقد جيش الاحتلال معها مزيداً من الخسائر الجسيمة مع خسارة صورة التفوق العسكري، وتفقد أميركا كل يوم صورة الردع التي تحرص عليها، خصوصاً في الممرات المائيّة، وأهمها البحر الأحمر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى