أولى

«طوفان الأقصى» بين إدارة المعركة والأبعاد الفكرية والتجدّد الحضاري العربي

‭}‬ زياد حافظ*
“طوفان الأقصى” ليست عملية عسكرية فارقة في تاريخ ووعي الأمة فحسب، بل هي نقطة تحوّل على الصعيد الفكري ليس في الوطن العربي والفضاء الإسلامي بل أيضاً في العالم أجمع. لقد أسقطت عملية “طوفان الأقصى” سرديّة غربيّة سيطرت على عقول الناس مفادها أن تفوّق الغرب والكيان الصهيوني يعود إلى التفوّق العلمي والاقتصادي والعسكري والثقافي، ولكن قبل كل شيء على تفوّق المبادئ الأخلاقية التي تستّر من خلفها لتسويق استعماره للقارات واستبعاده للشعوب أو إبادتها. فبينما ينهمك المراقبون والمتابعون والمؤيّدون للمقاومة في المنطقة في مشهد “إدارة المعركة” أي بتفاصيلها وما يمكن أن ينتج عنها هناك من تحوّلات بعيدة المدى بدأت في التبلور على الصعيد الفكري والثقافي لا بدّ من التوقّف عندها.
فالغرب الذي كان متفوّقاً في شتى الميادين تمتّع حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي بفائض من القوّة المادية ساهمت إلى حدّ كبير في تكوين فائض قيمة في القوّة الناعمة والسردية الثقافية والأخلاقية التي كان يسوّقها. فالتفوّق الغربي منذ أربعة قرون على الأقل يعود، وفقاً لتلك السردية، الى التفوّق الفكري والأخلاقيّ متجاهلا عن عمد الوجه الحقيقي لذلك الغرب. وهو الوحشية والبربرية. وهذا هو إرث ما بعد الإمبراطورية الرومانية الغربية التي سقطت في نهاية العقد الأول من القرن الخامس الميلادي (410) على يد “البرابرة” وهي الشعوب والقبائل الشماليّة في أوروبا. فحلّت مكانها حقبة القرون الوسطى حتى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي الذي شهد نهاية حرب المئة سنة بين فرنسا والمملكة المتحدة وسقوط الدولة العربية الإسلامية في الاندلس، تلاها فيما بعد اكتشاف القارة الأميركية وسقوط الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو البيزنطية وصعود نجم السلطنة العثمانية. فالشعوب الغربية في القرون الوسطى وبعدها تميّزت بوحشيّة سلوكها وخاصة بعد اكتشاف القارة الأميركية، فكانت الإبادة الجماعية لشعوب القارة على يد المهاجرين الانجلوسكسونيين في القارة الشمالية ومحاكم التفتيش الإسبانية على يد الاسبان في القارة الوسطى والجنوبية. تلازمت مع تلك الإبادة استيراد الرقيق من أفريقيا لتشغيل المزارع في القارة الجديدة واستخراج المعادن الثمينة وتصديرها إلى كل من إنكلترا وإسبانيا والبرتغال.
هذا الاستعمار الوحشيّ للدول والشعوب لم يقتصر على الجغرافيا بل على العقول التي رضخت لسردية التفوّق الغربيّ وأصبح مفهوم التقدّم والحضارة مرادفاً للغرب وبالتالي لضرورة الامتثال بالسلوك الغربي. اليس ما قاله أصحاب الأقلام الرفيعة في الفضاء الثقافي العربي المعاصر كطه حسين وقسطنطين زريق على سبيل المثال وليس الحصر؟ ألم تكتب الأقلام العربيّة بعد احتلال العراق أن قدر العرب هو الامتثال للغرب وفلسفته وخياراته وسياساته؟ ربما الظروف السياسيّة السائدة آنذاك قد تفسّر هذا الاستسلام ولكن لا يمكن القبول بتبريره. ليست مهمتنا مقاربة أقوالهم بل الإشارة إلى أن ثقافة الهزيمة كانت وما زالت متجذّرة في عقول ونفوس النخب العربية. وحتى في محور المقاومة نشهد مواقف تشير إلى أن الثقة بالنفس والنصر لم تصبح في صميم الوجدان. فهي سردية ما زالت خارج الوعي عند البعض بسبب تجذّر تلك الثقافة التي شرحها بالتفصيل ابن خلدون منذ أكثر من سبعة قرون وتبنّاها عالم الاجتماع الألماني ولفغانغ سكيفلبوش في القرن العشرين. ومظاهر تلك القلّة بالثقة في النفس تتخفّى وراء “الموضوعيّة” و”الواقعيّة” أو حتى “عدم الوقوع بالتفاؤل”. فقراءات النصر ليست إلاّ أحلام جميلة لكنّها بعيدة. وحتى عند الذين يؤمنون بالنصر فلا يؤمنون بقربها!
لكننا نحن من رأي مختلف. فعملية “طوفان الأقصى” التي أظهرت الإبداع في التخطيط والتنفيذ والسيطرة على التكنولوجيا لم تأت من الفراغ. بل هي تظهير لإنجازات تراكمت خلال العقود الماضية مع إنجازات المقاومة في لبنان والعراق ومؤخراً في اليمن وفي صمود سورية أمام الهجمة الكونية عليها. وهذه التراكمات ألغت مفاعيل سردية التفوّق الغربي السائد منذ القرن التاسع عشر. فهذه الأمة واجهت احتلالات الغرب لأقطار عربية في القرنين التاسع عشر والعشرين. فالنهضة العربية التي يطلقها المستشرقون والعرب المتغرّبون على تلك الحقبة لم تكن محصورة في تجدّد اللغة أو الفقه الدينيّ بل كانت مقاومة للاحتلال. فمضمون النهضة هو المقاومة والمقاومة اليوم هي امتداد لتلك التي بدأت منذ غزوة بونابرت للمشرق العربيّ. فاليوم الأمة تنتصر على المحتلّ ومستمرّة في دحره من الأراضي المحتلّة.
هذه المقاومة الممتدة على أكثر من قرنين من الزمن تعود إلى إرادة متمسّكة بموروثها الثقافي وبرسالتها الخالدة إلى العالم. وهذه الإرادة ترتكز إلى وحدة الإيمان والعقل. فلا عقل دون إيمان ولا إيمان ممكن دون العقل. وهذا العقل العربي الذي تمّ تحقيره من قبل المستشرقين والنخب العربية المتغرّبة هو العقل الإبداعي الذي يتمكن من المجرّد والملموس. نشير هنا إلى دراسات الدكتور إسكندر عبد النور حول العقل العربي. فهو الذي لجأ إلى المختبر العلمي، أي الدراسة في المختبر، لمعالم الادراك في العقل العربي وقارنه مع العقل الغربي وخاصة الانكلوساكسوني فأظهر التفوّق للعقل العربي على سواه. ويمكن للقارئ العودة إلى مؤلفّه الذي نشره مركز دراسات الوحدة العربية في أواخر العقد الماضي.
وهذا العقل العربي يمكّن صاحبه من الإدراك بالأمور المعقدة والأمور المجرّدة ويستوعب المعرفة كما يمكّنه بالتحكم بالملموس والجزئيات. لسنا هنا في إطار عرض ملامح العقل العربي كما أظهره الدكتور إسكندر عبد النور أو مؤلفّنا حول العقل العربي والتجدّد الحضاري بل لنشير إلى أن هذا العقل استوعب بسرعة فائقة التكنولوجيات المتقدّمة وطوّرها وفقا لحاجاته وخاصة في الشأن العسكري. وذلك رغم واقع التجزئة والضعف السائد في الوطن العربي بسبب رواسب الحقبة الاستعمارية وتجذّر ثقافة الهزيمة التي تمثّلت بخيارات وسياسات اقتصادية وسياسية وثقافية مبنية على فرضية خاطئة وهي أن 99 بالمئة من أوراق اللعبة في يد الغرب وخاصة الولايات المتحدة وأن قدر نخب الأمة هو الامتثال إلى المشيئة الغربية والأميركية. لذلك نمت طبقة نخبوية طفيلية ارتبطت مصالحها الخاصة بالغرب وعلى حساب المصلحة الوطنية والقومية. فلا شيء يقف أمام إسقاط التجزئة وتبنّي ثقافة الوحدة إلاّ المصالح الخاصة للنخب الحاكمة المستفيدة من حالة التجزئة والتبعية للخارج. فمصالحها الذاتيّة تتماهى مع المصالح الاستعمارية والإمبريالية على حساب الشعوب.
رغم كل ذلك فإن القوى الشعبية الحيّة المتمسّكة بموروثها الثقافي ورسالتها الخالدة استطاعت عبر عقلها وإيمانها وشجاعتها التملّك مما أنتجه العقل البشري لمقاومة الاحتلال وتجاوز ثقافة الهزيمة. خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر لله في مدينة بنت جبيل في 2000 كان مفصلياً في اعتبار الكيان الصهيوني الى زوال وأن منزله أوهن من بيت العنكبوت. فالقفزات النوعية للمقاومة في لبنان والعراق وفلسطين وسورية واليمن هي تراكمات حققها التمازج بين العقل والإيمان والشجاعة. ففائض القيمة الذي تمثّله أهداف المقاومة ساهم في تكوين فائض من القوّة. وذلك الفائض من القوّة ساهم في زيادة فائض القيمة ودواليك. لذلك يصبح النصر أمراً حتمياً وإن كان تحقيقه على مراحل وفقاً لموازين القوّة السائدة والتي تحوّلت تدريجياً لصالح المقاومة وثقافتها.
وهذا النصر الذي يتحقق أمام أعيننا كلفته البشرية باهظة. وهذه الكلفة بدلاً من أن تكون عبئاً على المقاومة تحوّلت إلى فائض قيمة انصبّت إلى فائض القوّة الذي يتراكم لدى المقاومة. لكن السؤال المركزي يصبح ماذا بعد؟ الإجابة على هذا السؤال هو سقوط المنظومة الفكرية التي سيطرت على عقول النخب العربية التي افرزتها الحقبة الاستعمارية. كما هي سقوط للمنظومة السياسية المتمثلة بمعاهدات سايكس بيكو التي حكمت النظام العربي الرسمي. ومن سخرية القدر أن الغرب الذي ساهم في إيجاد نظام التجزئة في الوطن العربي عاد ليسقطه عبر إنشاء ودعم منظومة ظاهرة “داعش” التي أسقطت سايكس بيكو بينما الحركة العربية التحرّرية حاولت خلال القرن الماضي مناهضة سايكس بيكو ولم تفلح بسبب معاداة الغرب والكيان الصهيوني لأي تغيير. أما اليوم فالنهوض العربيّ المتمثّل بتياّر المقاومة يسقط عبر الالتفاف الشعبي منظومة سايكس بيكو. كما يلغي فعلياً مشروع الاتفاقات الإبراهيمية للتغيير للموروث الروحي والثقافي السائد ولجعل تلك الاتفاقات قاعدة روحية بديلة عن الإسلام والانتماء القومي العربي.
فالتظاهرات ضد التطبيع التي تجلّت في مهرجانات كأس العالم في قطر أكّدت سقوط مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني وكرّست مركزية قضية فلسطين في وجدان الأمة. والعدوان الوحشيّ على غزّة أظهر قوّة الجماهير العربية من اليمن إلى المغرب مروراً بالأردن ومصر حيث الهتافات للمقاومة لجمت أي محاولة للنظام العربي الرسمي من الرضوخ للمشيئة الغربية والصهيونية. بل العكس، يمكن القول إن النظام الرسمي العربي بدأ بوتائر مختلفة في مراجعة الرهانات والخيارات السابقة فتجلّى ذلك الأمر في مجمل قرارات القمة العربية الإسلامية الأخيرة. صحيح أن النظام الرسمي العربي لم يرتق إلى المستوى المطلوب منه، ولكنه لم يقع حتى الآن في حبال الخداع الغربي والصهيوني في مواجهة المقاومة في غزّة. من هنا نفهم امتناع كل من مصر وبلاد الحرمين الانخراط في المشروع الأميركي في مواجهة أنصار الله في معركته ضد العدوان على غزّة عبر استهداف السفن المتوجهة لموانئ الكيان.
لذلك نعتبر سقوط سايكس بيكو عنوان المرحلة المقبلة التي يفرضها انتصار المقاومة. فجدوى الكيان الصهيوني اختفت حتى في الغرب وإن كانت نخبه الحاكمة ما زالت متمسكة به لأن سقوط الكيان يعني سقوط المشروع الغربي في غرب آسيا، ومن بعد ذلك في كل من القارة الآسيوية والجنوب الإجمالي. والنخب الغربية الحاكمة تواجه شعوبها التي لم تعُد تقبل السردية التي تفرضها النخب الحاكمة في الغرب. فسقوط جدوى الكيان الصهيوني والضعف البنيوي لدى المنظومة الغربية يضرب أهم قاعدة في بنية النظام الرسمي العربي المبني على فكرة التجزئة. فالمحور الذي يضمّ كلاً من سورية والعراق والجزائر كدول ومعها قوى شعبية مقاومة ومقاتلة أفرغت المضمون الوظيفي للتجزئة. فإذا فلسطين توحّد أبناء الأمة فلماذا لا توحّدها عبر إسقاط مفاعيل سايكس بيكو؟
البحث عن شكل النظام العربي المرتقب بعد انتصار المقاومة وما تمثّله فلسطينياً وعربياً ودولياً يجب أن يكون محور الاهتمام للنخب العربية وليس التفاعل مع سرديات الغرب التي تتكّلم عمن سيحكم غزّة. فالوحدة العربية بغض النظر عن أشكالها السياسية هي الأساس في استكمال النهوض العربي وصيانة النصر التي تحققه المقاومة في الميدان. والنهوض العربي هو عنوان التجدّد الحضاري الذي سيمكّن هذه الأمة استغلال قدراتها البشرية أولاً والطبيعية ثانياً والرقعة الجغرافية التي هي ثاني المساحات الجغرافية في العالم مستندة إلى موروثها الثقافي الذي أنتج المعرفة ولتكون حاضرة في إنتاج معرفة للمراحل المقبلة في تطوّر البشرية. فهذه هي رسالة الأمة التي تجب إعادة تأهيلها لتعطي البعد الحضاري لحركة المقاومة في الوطن العربي والتي تحفّز شعوب العالم على الاستمرار في الانتفاض ضد الظلم الناتج عن الهيمنة الغربية.

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى