أولى

استهداف منشأة ميرون للمراقبة الجوية: يُبعد الحرب أو يعجّلها؟

‬ العميد د. أمين محمد حطيط*

عندما افتتحت المقاومة الإسلامية في لبنان جبهة لبنان – فلسطين المحتلة أعلنت عنها بأنها من أجل مساندة المقاومة في قطاع غزة، حيث يتعرّض لعدوان وحشي تدميري إسرائيلي متفلّت من كلّ الضوابط والقواعد والقانون، ولذلك حدّدت المقاومة لجبهة لبنان هذه هدفاً معلناً واضحاً هو الضغط على العدو الإسرائيلي للتخفيف أولاً من وطأة عدوانه التدميري على غزة وإلزامه ثانياً بوقفه دون أن يتمكن من تحقيق أهدافه، ولذلك حدّدت المقاومة نسقاً وأنماطاً من القتال على هذه الجبهة تلبّي الأهداف التي رمت إلى تحقيقها مع التمسك الضمني والعلني بعدم الانزلاق الى حرب واسعة قد تتدحرج لتشمل الإقليم، فغاية جبهة الجنوب للبناني كما حدّدت هي إسناد غزة وليس للذهاب الى حرب مفتوحة.
وعندما نقول بتجنّب المقاومة للحرب المفتوحة، لا نعني أنّ المقاومة تخشى هذه الحرب أو أنها غير جاهزة لها، اذ انّ الحقيقة خلاف ذلك، فالمقاومة لا تريد الحرب المفتوحة لانّ ظروف هذه الحرب لم تتهيأ بشكل يمكن من تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى من هذه الحرب وهي إعادة الحقوق إلى أصحابها في فلسطين وإقامة شرق أوسط لأهله لا يكون محميّة او مستعمرة او منطقة نفوذ أميركية، ولذلك تعمل المقاومة على خطّين… تهيئة الذات والظروف ليوم الحسم أولاً وثانياً المشاغلة والمعالجة لتحصيل النقاط في المواجهة قبل ذلك، وبهذا نفهم جهوزيتها الدفاعية التامة وقدرتها الردعية وتنامي وتراكم إمكاناتها وطاقاتها القتالية التي تبقيها جاهزة للمواجهة دائماً…
وعطفاً على هذا الواقع ومع انتقال المواجهة ضدّ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة من حالة حرب الإخضاع والسيطرة التي سعت إليها «إسرائيل»، الى حالة حرب الاستنزاف التي تحوّلت إليها «إسرائيل» في الأسبوع الأخير بضغط من الميدان والجبهة الداخلية والضغط الأميركي، حرب تروّج فيها «إسرائيل» لفكرة «اليوم التالي» في القطاع بعد الحرب لتنظيمه بما يوافق مصالحها، معطوفاً على حلّ معضلة أمن المستوطنين الصهاينة في شمال فلسطين المحتلة بعد أن كشفت المقاومة الإسلامية من لبنان وهنه وفضحت الوهن في البنية الدفاعية والأمنية الإسرائيلية ما سلّط الضوء على عظيم الثغرات والضعف في مواجهة خطط وأداء المقاومة، الأمر الذي أنتج تحدياً آخر في وجه «إسرائيل» من الشمال يُضاف الى تحدي أمن الجنوب، تحديات فاقمها التحدي اليمني في البحر الأحمر حيث فرضت اليمن حصاراً على حركة السلع والخدمات ذات الصلة بـ «إسرائيل» وتسبّبت لها بخسائر كبرى.
إنها تحدّيات تراكميّة تتجمّع من الجبهة الرئيسية في غزة الى الجبهات المساندة في لبنان واليمن دون إغفال ما تشكله جبهة العراق وسورية من قلق لأميركا، تحديات تفرض البحث عن حلّ وتطرح السؤال عن طبيعة المخارج التي قد تسلكها «إسرائيل» في مواجهتها، فهل هي مزيد من العنف والهروب الى الأمام عبر حروب توسعها خاصة على الجبهة اللبنانية أم تنيط الأمر بأميركا لإيجاد المخارج لها؟
من يتتبّع الأداء الإسرائيلي حاضراً يجد أنّ التباين قائم داخل القيادة الصهيونية مع انتفاء الودّ والثقة بين المستويين السياسي والعسكري، والحكومة برئاسة نتنياهو تخشى الانهيار حتى في زمن الحرب، لكن نتنياهو الذي يرى نفسه في أحد مكانين إما الميدان مهما طال العمل فيه، وإما السجن مهما راوغ في التحقيق الذي يقود إليه، ولذلك يفضّل الميدان على السجن ويسعى إليه متجاوزاً الإرادة او لنقل الخيار الأميركي، ما يعني أنّ نتنياهو اذا تمكن من فرض إرادته والعمل بخياره فإنّ المنطقة وانطلاقاً من جبهة لبنان ذاهبة الى حرب شاملة فهل سيحصل ذلك؟ وما هي استعدادات المقاومة له؟
عندما قررت المقاومة من لبنان الدخول في حرب إسناد قطاع غزة، كان في ذهنها وبشكل مؤكد إمكان الانزلاق الى حرب شاملة خاصة وأن مقتضيات العمل على جبهة الإسناد هذه تفرض إحداث ما يؤلم العدو حتى يؤتي العمل مفاعليه ويحدث الضغط عليه لوقف عدوانه على القطاع والتخفيف من الأعباء التي يلقيها على المقاومة الفلسطينية فيه، ولذلك عملت المقاومة بين خطين خط قتالي للإيلام، وخط تقييديّ لمنع الذهاب الى الحرب الشاملة الأمر الذي حملها على اعتماد «استراتيجية الضغط المرن المنسّق مع قطاع غزة» وقد نجحت المقاومة في أدائها على الوجهين، لكن مفاعيل تلك العمليات يبدو أنها فاقت مستوى احتمال العدو خاصة لجهة الخسائر التي أنزلت به بشرية ومادية، او لجهة الوضع الأمني والنفسي للمستوطنين هذا فضلاً عن تأثير الجبهة على الواقع العسكري الإسرائيلي تنظيماً وتحشيداً ومعنويات، حيث أدّت عمليات المقاومة إلى انهيار البنية الدفاعية الأساسية، ثم منعت ترميمها ثم انهارت البنية البديلة ما أرهق العدو وأثاره وجعله يسعى للمعالجة.
وفي إطار المعالجة حاول العدو الاستعانة بحلفائه لإيجاد حلّ دبلوماسي للمعضلة، ولم تنجح كل المساعي في بلوغ ما تبتغي «إسرائيل» من مخارج لأنّ المقاومة ثبتت عند القول «فتحت الجبهة من أجل قطاع غزة وأنها ستتوقف عندما يتوقف العدوان»، ما جعل العدو عامة ونتنياهو خاصة يتمسك بخيار الحرب على لبنان باعتباره الحلّ الوحيد لأمن الشمال الفلسطيني المحتلّ. ومن أجل التهيئة للحرب وجعل المقاومة تبدأها حتى لا تتحمّل «إسرائيل» مسؤولية الذهاب اليها، فقامت «إسرائيل» بسلسة من الاغتيالات لقادة هامّين في محور المقاومة فاغتالت العميد رضي الموسوي من الحرس الثوري الإيراني في دمشق والشيخ صالح العاروري من حماس في الضاحية الجنوبية من بيروت ـ لبنان.
شكلت عمليات الاغتيال هذه تحدّياً كبيراً للمحور بشكل عام ولحزب الله بشكل خاص، ووضعته في موقع «وجوب الردّ الموجع على إسرائيل» مع الالتزام بتجنب الانزلاق إلى حرب مفتوحة، وكان عليه ان يختار هدفاً ووسيلة تلبّي هذين الشرطين. وهو ما فعله بالضبط حيث أكدت قيادته أنّ الردّ حتمي، وانّ المقاومة ستجعل «إسرائيل» تندم اذا ذهبت بعد الردّ الى حرب أيّ انّ المقاومة أوْحت بأنها ستردّ دون الانزلاق الى الحرب مع استعدادها لها انْ فُرضت.
وبهذا المنطق اختارت المقاومة «محطة ميرون للمراقبة الجوية فاستهدفتها بـ 62 صاروخاً من مختلف الأنواع والمفاعيل وحققت فيها إصابات مؤكدة وكان لعمليتها الكثير من الدلالات والرسائل التي يمكن أن نذكر منها:
ـ خروج الردّ عن إطار الحرب المقيدة في عنصر المكان (بعيد 9 كلم عن الحدود) وعنصر الهدف حيث أنّ المنشأة تعتبر هدفاً عملانياً/ استراتيجياً هاماً لا ينتمي الى فئة الأهداف العملانية التي استهدفتها المقاومة خلال الأشهر الثلاثة السابقة.
ـ تحقيق إصابــات مؤكدة في المنشــأة أظهرتها الصور التي عرضت وثبتتها عملية إطلاق «إسرائيل» لمنطاد المراقبة الجوية ليحلّ بشكل مؤقت مكان المنشأة التي دمّر جزء منها وشلّت وظيفتها.
ـ كشف وهن منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي بكلّ مقوماتها وإظهار عجزها عن حماية اهداف استراتيجية هامة.
ـ تأكيد فعالية منظومة المراقبة والاستعلام الميداني للمقاومة بشكل يمكنها من الوصول الى حاجاتها من المعلومات الميدانية مقارنة مع التخلف في منظومة الاستعلام الإسرائيلي.
ـ إظهار مدى قدرات المقاومة النارية لجهة الدقة في الإصابة والضخامة في المفاعيل التدميرية.
هذا غيض من فيض ما يستنتج من استهداف ميرون، ويبقى الكثير الذي سيكشف في المستقبل والذي تعرفه «إسرائيل» التي لم يمنع طيرانها الذي يسيطر سيطرة جوية كاملة على الأجواء اللبنانية حالياً لم يمنع من تنفيذها، وهنا تضع «إسرائيل» نفسها أمام الاختيار بين التعجيل في حرب مرجّحة خسارتها، أو تأجيل للحرب بحثاً عن بدائل تغني عنها؟
لو كان القرار حصرياً بيد نتنياهو لقلنا عطفاً على ما تقدّم أنّ الحرب ستقع غداً بذريعة أمن الشمال وتهديد وجودي لـ «إسرائيل»، لكن قرار الحرب ليس فردياً وحصرياً ثم ليس «إسرائيلياً» فقط، فقرار الحرب تتخذه القيادة الإسرائيلية بمستوييها وتبرمه أميركا أو تنقضه. وفي واقعنا الحالي نرى أنّ عملية ميرون أبعدت الحرب ولم تعجّلها وكلّ ما يقرع من طبولها الآن هو حرب نفسيّة للحصول على ثمن مقابل.

*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى