أولى

أمن «إسرائيل» الوهم…!

‭‬ د. عدنان منصور*

منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي عام 1948، ربط القادة «الإسرائيليون» استمراريّة دولتهم، واستقرارها بالأمن المطلق الذي هو ضرورة حتميّة للسلام الذي تريده دولة الاحتلال على طريقتها الخاصة.
استطاعت «إسرائيل» عبر تفوّقها العسكريّ على مدى أكثر من ربع قرن، أن تحقّق لها الأمن النوعيّ، بعد سلسلة من الحروب العدوانيّة قامت بشنها على العرب، حيث احتلت أجزاء من أراضيهم، وفرضت عليهم حالة من الاسترخاء، وفّرت لـ «إسرائيل» أمناً ملموساً.
لم ينفصل التوسّع «الإسرائيلي» والاحتلال للأراضي العربية عن مفهوم الأمن والوجود الإسرائيلي في المنطقة. إذ ظلّ أمن «إسرائيل» يرتبط بنهج التوسّع، وإبعاد السكان العرب الأصليين، وتفريغ مناطقهم، وإجبارهم على تركها، والنزوح إلى أماكن بعيدة، أكان ذلك في الضفة الغربية، او القدس او الجولان. ألم يقل اسحق رابين عشية انتخابات الكنيست عام 1992: «إنّ من ينزل عن هضبة الجولان، يكون قد تخلّى عن أمن إسرائيل»! وها هو نتنياهو قبل ثلاث سنوات من ترؤسه أول حكومة للكيان عام 1996، يقول في كتابه «مكان بين الأمم»: «إنّ استمرار سيطرة «إسرائيل» على الجولان، يُعتبر عنصراً حيوياً للمحافظة على السلام.»
إنّ الإصرار على الاحتلال والتوسّع، ورفض قيام الدولة الفلسطينية من قبل «إسرائيل»، لا يتهرّب منه القادة الصهاينة، ولا ينكرونه، بل يجاهرون به أمام العالم كله. فنتنياهو يعتبر «أنّ المطالبة بقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية، تتعارض كلياً مع السعي لتحقيق سلام حقيقيّ. إذ أنّ وجودها يضمن حالة عدم استقرار ونزاع مستمر، يؤدّي في النهاية الى حرب حتمية».
إنّ الأمن والسلام الإسرائيلي يتمثل عند القادة الإسرائيليين بالاحتلال، ثم القضم والضم. وهذا المفهوم أخذ به دافيد بن غوريون، وغولدا مائير، وليفي إشكول ومناحيم بيغين واسحق شامير، مروراً بشيمون بيريز، واسحق رابين، وصولاً الى أرييل شارون، وإيهود باراك،
وآخرهم بنيامين نتنياهو الذي كشف النقاب عن أهداف الكيان بقوله: «إنّ على إسرائيل أن تحتفظ بالعمق الاستراتيجي الحالي الذي تمثله الضفة الغربية»… و»أّن دولة فلسطينية، مثلها مثل اليد الممدودة لخنق شريان الحياة لإسرائيل»، الممتدّ على طول ساحل البحر من حيفا وحتى أشكلون (عسقلان). لذا ليس من الغريب أن نجد معظم الإسرائيليين يرفضون هذه الفكرة ويرون فيها خطراً مميتاً لـ «الدولة».
وكي تستطيع «إسرائيل» الدفاع عن نفسها، يجب عليها أن تحتفظ بـ «السيطرة العسكرية على كل منطقة الضفة الغربية».
لقد أكد العديد من القادة العسكريين الإسرائيليين، في مناسبات عدة، على أن ليس للمستوطنات التي تبنيها «إسرائيل» في الضفة الغربية من أهمية استراتيجية. إنما الغاية منها، هي ان تكون عقبة رئيسة في وجه إقامة دولة فلسطينية عربية غرب نهر الأردن. لأنّ المستوطنات التي بنتها «إسرائيل» في مواقع متقدّمة على الحدود، لا توفر الأمن لساكنيها دون مساندة الجيش لها. فالأمن الذي هو هدف استراتيجي لـ «إسرائيل» يرتبط ارتباطاً مباشراً بالأرض والمستوطنات والمهاجرين الصهاينة، والذي يرى فيه قادة «إسرائيل» وبالذات نتنياهو، على «أنه في الشرق الأوسط يتقدّم الأمن على السلام ومعاهدات السلام، وكلّ من لا يدرك هذا، سيظلّ دون أمن ودون سلام».
بعد 75 عاماً من قيامها، لم يحقق منطق القوة، وسياسة العدوان الإسرائيلية المستمرّة، وسلوك القتل والإرهاب، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل، والتمييز العنصريّ والترهيب، الأمن لـ «إسرائيل». إنّ دولة تربط حياتها ووجودها ومستقبلها بسياسة الاحتلال والقتل، لا تستطيع مطلقاً أن تستمرّ، وهي تستقي مفاهيمها من عقول متطرفة عنصرية متحجّرة، كأرمون صوفير ( Armon Soffer) البروفسور الجامعي في جامعة حيفا الذي أدلى بحديث يوم 10 أيار 2004 لصحيفة «جيروزاليم بوست» جاء فيه: «لو أردنا ان نبقى على قيد الحياة، يتوجب علينا أن نقتل ونقتل ونقتل. إنْ لم نقتل في كلّ وقت، وفي كلّ يوم، سينتهي وجودنا».
ها هي مقاومة غزة اليوم تبدّد وهم «إسرائيل»، وتختصر كلّ فلسطين بوجود شعبها، وتاريخه، ومقاومته، وحقوقه المشروعة، وتجذّره في أرضه.
أثناء زيارته للكيان الإسرائيلي، تحدّث وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن عن سلام دائم يؤدي الى قيام دولة فلسطينية وهو يعلم جيداً أنّ «إسرائيل» ليست بوارد إعطاء الفلسطينيين دولة مستقلة بالكامل.
فالضفة الغربية التي قسمت بموجب اتفاق أوسلو الى ثلاث مناطق «أ» و»ب» و»ج»، لم تعد تترك المجال لقيام دولة فلسطينية. إذ أنّ المنطقة «ج» تخضع لسيطرة عسكرية ومدنية إسرائيلية كاملة، فيما شكلت هذه المنطقة 61% من مساحة الضفة الغربية، وتضمّ كافة المستوطنات الإسرائيلية من المدن، والبلدات، والقرى، ومعظم الطرق التي ترتبط بالبلدات، حيث يقتصر استخدامها على الإسرائيليين فقط.
عام 1972، كان يوجد في المنطقة «ج» ألف مستوطن فقط. وفي عام 1993، ارتفع العدد ليصل الى 110000، وفي
عام 2012 أصبح عدد المستوطنين ثلاثمئة ألف مقابل 150000 عربي غالبيتهم من البدو والمزارعين.
في الوقت الحالي يعيش في الضفة الغربية نصف مليون مستوطن، عدا القدس الشرقية التي يوجد فيها 220000 ألف مستوطن، في حين لم يكن هناك من «إسرائيلي» واحد فيها قبل احتلالها عام 1967.
أيّ سلام يبحث عنه بلينكن، وهو ورئيس دولته ومسؤولوها منحازون كلياً، وداعمون بالمطلق لدولة الاحتلال ومجازرها، وإنْ تظاهروا بإبداء «غيرتهم» على الأمن والسلام في المنطقة، إذ انهم يريدون السلام والأمن والاستقرار كما تراه «إسرائيل» قبل الفلسطينيين ودولتهم المعلقة.
واهم من يظنّ انّ «إسرائيل» ستخلي مستوطناتها من المستوطنين المحتلين. والولايات المتحدة ليست على استعداد لحمل «إسرائيل» على تفكيك المستوطنات والانسحاب النهائيّ من الضفة الغربية، والإقرار بدولة فلسطينية كاملة السيادة؟! لغة واشنطن وتل أبيب واحدة في هذا الشأن، وهذا ما يعرفه المقاومون الفلسطينيون جيداً، وهم يقارعون دولة الاحتلال لتحرير أرضهم وإقامة دولتهم كما يريدونها، لا كما تريدها «إسرائيل» وإمبراطورية الاستبداد الداعمة لها.
أمن «إسرائيل» الذي اعتبره القادة الصهاينة الأولوية لاستمرارية كيانهم المؤقت، بدأ يتهاوى بشكل سريع مع مقاومة فلسطينية شرسة متصاعدة، وظهور مقاومات مؤثرة، فاعلة، داعمة لها، قرّرت تطهير المنطقة من الاحتلال بأشكاله وألوانه كافة.
بعد 75 عاماً من قيامها، لا زالت «إسرائيل» تبحث عن الأمن وسلام الأمر الواقع المفقود، رغم دعم واشنطن وانحيازها الأعمى لها، ووضع إمكاناتها الضخمة في خدمة عدوانها واحتلالها.
جاء بلينكن لدعم «إسرائيل» وإنقاذها من المستنقع الذي هي فيه، ولم يأت لإنقاذ الفلسطينيين، من الإبادة الجماعيّة، حيث تعمّدت اميركا منذ عام 1948 الوقوف في وجه حقوقهم المشروعة، عبر استخدامها لأكثر من 45 مرة حق النقض (الفيتو) ضدّ مشاريع قرارات في مجلس الأمن تضمن حقوق الشعب الفلسطيني، وتدين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي بحقه. «إسرائيل» المدعومة من واشنطن، ليست على استعداد أن تتخلى عن احتلالها، وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة، إنما تريد وبوقوف الولايات المتحدة المطلق إلى جانبها، إنهاء المقاومة في غزة، ومن ثم تهجين القطاع، ووضعه تحت عباءة السلطة الفلسطينيّة في رام الله، التائهة بين أوهام اتفاق أوسلو، ووساطة واشنطن المنحازة، وزيف «وعود» تل أبيب!
وحدهم المقاومون الفلسطينيون يقرّرون مصيرهم بأيديهم، ولا يقرّره أمن «إسرائيل» وأطماعها، ولا خداع دولة الاستبداد في العالم وانحيازها…

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى