ثقافة وفنون

ومضات الشاعرة زينة حمود نصوص قصيرة بحجمها وطويلة بكثافتها الداخلية

د. دورين نصر

إنّ قصيدة الومضة واحدة من الأنماط الشعريّة أو الأساليب الإبداعيّة التي واجهت جدلاً واسعًا في تحديد ملامحها وسماتها وخصائصها التي تجعل منها نمطًا متفرّدًا بين الأنماط الشعريّة المعروفة مثلما يحصل مع أيّ فنّ أدبي جديد. لن أدخل في هذا الجدل التاريخي ولن أحفر في الجذور لأنّي سأتعامل مع هذه الومضات على أساس أنّها نصوص، ما يدفعني إلى القول أنّ قصيدة الومضة هي قصيدة «الصمت الإيحائي أو الصّمت المقروء». أنموذج شعري له صورُه، ولغته، وإيقاعاته الداخليّة، تنبع خصوصيّته ممّا يكتنز من ملفوظات قليلة، ذات دلالات كثيرة، وإيحاءات خصبة.
قصيدة الومضة ليست نصًّا تُستسهل كتابتُه إذ يجب أن يُسمح للمتلقّي بإعمال فكره واستخدام كلّ مهاراته الثقافيّة والأدبيّة واللّغويّة لفكّ طلاسم هذه القصيدة، سيّما أنّ مساحة المُصرَّح له أقلّ بكثير من مساحة المسكوت عنه.
قصيدة الومضة هي قصيدة المفارقة وعدم التوقّع. فصاموئيل هاينز يرى أنّ تجاوز المتنافرات جزء من بنية الوجود، وكيركغار يؤكّد أنّه ليس من حياة بشريّة أصيلة ممكنة من دون مفارقة، وقد نتّفق مع «أناتول فرانس»: أنّ عالمًا بلا معركة يشبه غابة بلا طيور.
أمّا على صعيد جماليّات التلقّي، فإنّ قوّة المفارقة تتجلّى من خلال المتعة التي تولّدها، كما تتجلّى قوّتها وتأثيرها من خلال وظيفتِها الأساسيّة المتمثّلة في إعادة التوازن إلى الحياة. فإلى أيّ مدى تحقّقت هذه المفارقة في النصوص قيد الدرس؟
إنّ المعاينة الأولى للومضات تبيّن أنّها تجسّد تجربة الشاعرة التي تعاني من الفقدان. فهي تتضمّن التنوّع داخل الوحدة، أو هي الوحدة المتنوّعة، مع أنّها تشكّل في سياقها العام وحدة كليّة.

الشاعرة زينة حمود

تقول الشاعرة في الومضة الأولى:
الخوف يقتلني
وضحكتي تركتها
على مائدة الانتظار
من حيث البناء نحن أمام جملة اسميّة خبرها جملة فعليّة، فالكاتبة بحالة اضطراب وقلق كأنّ وجودها مهدّد، ما يدفعنا إلى التساؤل: هل تنتظر الخلاص أو الموت؟ ضحكتها التي تركتها على مائدة الانتظار توحي بأنّها تترقّب الخلاص أكثر من الموت.
في الومضة الثانية، تقول:
غيوم رماديّة
خيوط بيضاء
ووجوه سوداء
تحلّق كسرب حمام
فوق قطعة السكر
إنّ توظيف الألوان في هذا النّصّ يُعرف في البلاغة بالتدبيح، أي أن يذكر المتكلّم ألوانًا ويقصد بها التورية والكناية. وفي هذه الومضة الغيوم الرماديّة ترمز إلى عدم وضوح الرؤية، أمّا الخيوط البيضاء فترمز إلى الشيب، وقد ترمز الوجوه السوداء إلى الاغتصاب، أمّا قطعة السكر فكناية عن المرأة. وكأنّ الكلّ يشتهي تلك المرأة ويدور حولها، وفي حركة التحليق فوق قطعة السكر إشارة إلى تلك الرغبة في التقاطها والحصول عليها، وكأنّ هذه المرأة هي مركز الوجود، والكلّ يحاول النيل منها.
وفي ومضةٍ أخرى تقول:
لم تعترف بحبّه يومًا
إلاّ أنّها تهذي باسمه
في الصّباح والمساء.
في الواقع، إنّ هذه الومضة حمّالة أوجه: أن تستهلّ الكاتبة نصّها بلم الجازمة، يعني استحالة وجود هذا الحب، لكنّ أداة الربط المفصليّة إلاّ أنّها قلبت المعنى، وانزاحت بدلالة الجملة عن معناها الأصلي، فصار الهذيان ناتجًا إمّا عن حالة الجنون من الحب، أو عن حالة الاغتصاب، ما جعل المعنى مفتوحًا على عدّة تأويلات. وهذا شرط أساسيّ من شروط الومضة الشعريّة، إذ يجب أن تمنح المتلقّي مفاتيح الولوج إلى عالم ينفتح فيه التأويل وتتشظّى الدلالات.
وتردف الشاعرة قائلة:
ألامس وجه القمر
النجوم تشهد
وتبتعد
يفوح العبير
مع قطرة المطر
إنّ وجه القمر، كناية عن الحبيب، والنجوم شاهدة على ذلك وقد ابتعدت عن القمر ففاح العبير نتيجة الملامسة.
بالتالي، نلاحظ بأنّ الإيحاءات التي يكتنزها المعنى هي إيحاءات خصبة.
وفي ومضة أخرى، تقول:
عيناكَ شِباك
تصطاد الأمل
من صحاري القلوب
في عملية الاصطياد تَعَدٍّ واعتداء، لكن هنا نلاحظ انزياحًا على مستوى اللّفظ، وهذه هي المفارقة لأنّ انعدام الأمل الموجود في فعل الاصطياد تغيّرت دلالته حين قالت الكاتبة: تصطاد الأمل في صحاري القلوب، هكذا تكون الشاعرة قد كسرت أفق التوقّع لإثارة المتلقّي بإيماضة خاطفة.
وفي الومضة الأخيرة تقول:
قطّة الجيران
لا تنام
إلاّ في حجرتي
وتقاسمني
الوسادة الحمراء…
هذه الومضة تدلّ على الخيانة، فالوسادة الحمراء هي رمز للّذة التي لا تتمتّع بها طالما أنّ امرأة أخرى تقاسمها إيّاها. هكذا نلاحظ بأنّ فكرة الفقدان هي التي جمعت كلّ هذه النصوص، ولم تضع الكاتبة عناوين لهذه الومضات، إذ أوكلت هذه المهمّة إلى القارئ، كما أوكلت إليه مهمّة ملء الفراغات كما لو أنّ كلّ جملة تختزل جملاً، وهذا ما أكّده الجرجاني «أنّه لا معنى للإيجاز إلاّ أن يدلّ بالقليل من اللّفظ على الكثير من المعنى».
بالتالي، إنّ هذه النصوص القصيرة بحجمها هي بشكل ما طويلة بكثافتها الداخلية، هي مستضيفة ومحتدمة في إيحائها، وإن كانت وجيزة في عباراتها وإيقاعها، ذلك أنّ الاختمار يمثّل العمر الآخر للقصيدة.
في الواقع إنّ المجموعة الأخرى من الومضات التي وصلتني مثال:
عيناكَ سرّ، اختفاء كفّ الوجود، جسر الأبديّة… وغيرها، تجلّت فيها الرؤية بطريقة أوضح، وكأنّ العالم الذي يتحرّك فيه مثل هذل الشعر أقرب إلى عالم يتراوح بين الواقع والحلم. والواقع الصوري لا يُدرك بالمعرفة التجريبيّة وإنّما بالعرفان والاستبصار، ذلك أنّه مزيج من الخيال والحقيقة.
فثمّة عالم يبقى غير مفهوم، فيما عالم آخر يُشعر به، واضح في تجلّياته الداخليّة كما لو أنّه أقوى من مظاهر الوجود حولنا.
هذه الذخيرة الواسعة من التشابه والاختلاف شكّلت المادة الأساسيّة للعالم الذي صوّرته لنا الكاتبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى