مرويات قومية

مرويات قومية

 

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ «البناء« هذه الصفحة، لتحتضنَ محطات مشرقة من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة، وقد سجلت في رصيد حزبهم وتاريخه، وقفات عز راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا أي تفصيل، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
أنّ نكتب تاريخنا،..فإننا نرسم مستقبل أمتنا.

إعداد: لبيب ناصيف

 

السجن ـ المدرسة وقفات عزّ (1)

 

الرفقاء الذين شاركوا في الثورة الانقلابية اعتقلوا في بادئ الأمر في ثكنة الأمير بشير ومنها كانوا يتوجهون الى قصر الأونيسكو الذي تحوّل الى محكمة ترأسها في البدء الزعيم جميل حسامي وفي الاستئناف القاضي الأستاذ اميل أبو خير.
بعد صدور الأحكام(1) نقل الأمناء والرفقاء أسد الأشقر، عبدالله سعاده، إنعام رعد، فؤاد عوض، شوقي خيرالله، علي الحاج حسن، صبحي أبو عبيد، بشير عبيد، ديب كردية، محسن نزهة، جبران الأطرش الى سجن الرمل حيث عوملوا معاملة لا تقدم عليها وحوش الغابة، ثم نقلوا بعد احتجاجات وإضراب عن الطعام الى سجن القلعة في بيروت.
أما الرفقاء الآخرون وعددهم يناهز 150 رفيقاً فقد نقلوا الى سجن القبة في طرابلس وفيه أمضوا سنوات قبل نقلهم في خريف عام 1966 الى سجن القلعة.
أما عن الثورة الانقلابية، عن التعذيب الوحشي، عن سقوط شهداء أبطال تصفية خارج المعتقل، او تحت التعذيب، عن مواقف البطولة في المحكمة، عن الإضراب عن الطعام، عن التصدي والمواجهة والعنفوان، عن عمل الرفقاء خارج الاسر وتعرّض العديد منهم للسجون، فهذه كلها تحتاج الى كلام كثير، علّنا، ورفقاء آخرون معنيون، نحفظ القليل من هذا الكثير المشع بكل وقفات العز.
من كتابيّ الأمينين منير خوري: «سفينة حياتي»، وابراهيم زين: «قطاف من حقول العمر»، هذه المعلومات التي تضيء على الأداء القومي الاجتماعي للرفقاء في سجن القبة، وقد حوّلوه الى مدرسة ووحدات إنتاجية أدهشت كلّ من تعرف اليها من ضباط الامن الداخلي والمكتب الثاني اللبناني.
واذا كان سجن القبة تحوّل الى مدرسة، فسجن القلعة في بيروت الذي انتقل إليه الرفقاء من القبة صيف العام 1966 لينضموا الى من كان سبقهم من أمناء ورفقاء، لم يكن اقل منه تجسيداً لفضائل الحياة القومية الاجتماعية.
عنه سنحكي لاحقاً.
***
من كتاب الأمين ابراهيم زين:
«في أواخر شباط من العام 1964، جرى نقل جميع الرفقاء المحكومين نتيجة اشتراكهم الفعلي بالمحاولة الانقلابية أواخر العام 1961، باستثناء الأمين انعام رعد والرفيق صبحي أبو عبيد والمحكومين بالإعدام من الرفقاء والأمناء مع الضباط العسكريين الثلاثة الذين ظلوا في سجون بيروت، ورحّلنا جميعاً الى سجن القبة في طرابلس شمال لبنان!
يتألف السجن المذكور من طابقين وقد خصص للمساجين القوميين الاجتماعيين.
فور صعودنا الى الشاحنات التي نقلتنا من ثكنة الأمير بشير، في بيروت، الى سجن القبة، في طرابلس، وعلى امتداد مسافة الطريق، كانت أصوات الرفقاء تملأ الأجواء بالأغاني والأناشيد الحزبية، وعند مرورنا في منطقة صربا حيث يوجد القصر الجمهوري، تعالت هتافات الرفقاء بحياة سورية وسعاده، وفور دخولنا الى السجن المذكور، استقبلنا من قبل الدرك بالضرب والشتائم، بقصد إرهابنا!
بعد مرور عدة أيام في هذا السجن، وعلى اثر تلاسن بين أحد الدركيين والرفيق أوغست حاماتي(2)، وتعرّضه للإهانة، قرّرنا الردّ على الدرك بشبه عصيان جماعي، والاستعداد لتأديب الدرك بالضرب، أثناء فترة التعداد المسائية، ولما علمت قيادة السجن بذلك، فاوضت الأمناء مصطفى عز الدين، منير خوري، ادمون كنعان وجبران جريج.
وانتهى هذا الإشكال مع الدرك بنقل العسكريين الذين تعرّضوا لنا بالإهانة، واعتذار الضابط مسؤول السجن علناً للرفقاء، أثناء فترة التعداد المسائية، ثم أخذت تتلاشى شيئاً فشيئاً ويوماً بعد يوم طريقة التعامل معنا، حيث تطورت سريعاً من حسن الى أحسن.
بعد استقرارنا في سجن القبة، تبلّغنا تعيين الأمين مصطفى عز الدين مسؤولاً حزبياً عنا، وتحولت غرف السجن الى وحدات حزبية (مديريات) وكلف الأمين ادمون كنعان بضبط موضوع الإنتاج ورعايته.
«بعد مرور فترة من وجودنا في هذا السجن، استقال الأمين مصطفى عز الدين وتسلم المسؤولية الحزبية الأمين الدكتور منير خوري، حيث تطورت طريقة معاملتنا بعد صدامات متكررة مع إدارة السجن الرسمية، تدرّجت من التمنع عن الخروج الى النزهة اليومية، والإضراب عن الاستحمام، ومقاطعة دكان السجن، لشراء ما نحتاجه يومياً، مع تهديد بالإضراب عن الطعام، وكان يرافق هذه المواقف مذكرات يقدمها الأمين منير خوري عنا الى إدارة السجن الرسمية، وبنتيجة هذه الجهود، نظمت حياة الرفقاء اليومية على القواعد التالية(3):
1 ـ كل رفيق سجين يجب أن يكون منتجاً بطريقة ما.
2 ـ كل غرفة (قاووش) يجب أن تصبح وحدة حزبية تعاونية إنتاجية.
3 ـ تنوع الإنتاج يتوقف على الطاقات المتوافرة عند الرفقاء: مهارات فنية – تعليمية – لغوية – حرفية بعد توافر المواد الأولية لها.
4 ـ تشكيل لجنة فنية من الرفقاء الموهوبين، تكون مهمتها وضع تصاميم لجميع الأشغال الفنية: خرزية – خشبية من رقائق الخشب الدقيق، المسموح بإدخاله الى السجن – موزاييك من قشر البيض، والحصى الصغيرة.
5 ـ يُطلب الى جميع المهتمين بالأعمال الفنية التقيّد بالتصاميم التي يهيّئها الفريق الفني.
6 ـ في الإنتاج الفكري – الأكاديمي – اللغوي، طلب إلى كل قومي سجين يتقن اللغة الانكليزية أو الفرنسية أو العربية، أو اي مهنة من المهن الأكاديمية كالمحاسبة ومسك الدفاتر وغيرها ألا يتردّد في تعليم الرفقاء في غرفته للذين يرغبون ذلك في حقل من الحقول.
7 ـ فرض ضريبة على الإنتاج قدرها 5% من قيمة كلّ قطعة مباعة لدعم صندوق السجن التعاوني الذي كان يؤمّن حاجات بعص الرفقاء المحتاجين الذين لا معيل لهم، وتأمين الدواء للمرضى، إذا لم يكن موجوداً في صيدلية السجن وكان يشرف على ضبط حسابات هذا الصندوق خازن حزبي.
وبعد مرور بضعة أشهر تحوّل السجن عملياً الى مدرسة داخلية، وخلية إنتاج منظم.
كما أصدرت اللجنة الإذاعية المؤلفة من الرفقاء: نجيب اسكندر(4)، سليم متري(5)، ابراهيم زين(6)، وفؤاد ذبيان(7)، مجلة اسمتها: «النافذة» حيث تضمّنت عدة أبواب ثقافية – عقائدية – ترفيهية – سياسية، يشرف على تحريرها الرفيق فؤاد ذبيان ويعاونه في إخراجها الرفيق حسن رؤوف حسن(8)، تصدر شهرياً ويطّلع على مواضيعها الرفقاء في غرفهم.
كما أنّ حياتنا الحزبية عرفت تنظيماً مبتكراً، فكان هناك مسؤول إداري عن الغرفة، لضبط المسائل الحياتية للرفقاء، ومسؤول حزبي لتوجيه الرفقاء عقائدياً، وله صلاحية فصل الرفيق الذي يرتكب خطأ، عقوبة حزبية تتدرّج من التنبيه واللوم والتأنيب والفصل لمدة اسبوع، ثم رفع أمره الى المسؤول الأول الحزبي في السجن، مع اقتراح عقوبة أكبر».
***
ومن كتاب الأمين د. منير خوري:
«لم يمر وقت طويل حتى بدأ المردود المادي للإنتاج، من جزادين خرزية، ولوحات فنية على أنواعها، ونرابيش أراكيل، وغيرها، يسدّ قسماً كبيراً من الحاجات المادية من طعام وأدوية ولباس. أكثر من ذلك، شرع بعض السجناء النشيطين إنتاجياً، في مساعدة أهاليهم في حدود ثلاث مئة ليرة شهرياً، (وكانت القوة الشرائية لليرة اللبنانية في أوْج مجدها).
«ساعدَنا عدد كبير من أصدقاء وصديقات للحزب(9) بجدّ وإخلاص في بيع تلك السلع الى المحلات التجارية والبيوتات اللبنانية. وبلغت حصيلة ما جمعناه من الضريبة على القطع المنتجة حوالي ثماني مئة ليرة، أودعت الصندوق العام عند إدارة السجن. كانت هذه القيمة مخصصة لتغطية النفقات لبعض الرفقاء من أدوية وأمور شخصية متنوعة.
علمت، بعد خروجنا من السجن انّ جمعاً من الرفقاء الذين تعلموا على أيدي رفقائهم من حاملي الشهادات الثانوية، أو الجامعية، أموراً، كاللغات: الإنكليزية والفرنسية والعربية، واموراً أخرى كأصول «مسك الدفاتر»(10) والمحاسبة، وغيرها استطاعوا الحصول على وظائف في عدد من الشركات والمؤسسات التجارية.
«ما ان مرت سنة تقريباً على دخولنا سجن القبة حتى أصبح معتقلنا محط أنظار الإدارة ومضرب المثل في النظام والتنظيم، إلى أن فاجأنا يوماً وفد رفيع المستوى مؤلف من مدير مخابرات الجيش غابي لحود، مدير الأمن الداخلي محمود البنا، يرافقهما آمر السجن فيصل فرحات. كانت نشاطاتنا الثورية، كما يبدو، أثارت حفيظة السلطة فجاء هذا الوفد للتعرّف الى هذه القفزة النوعية الإيجابية والأولى من نوعها في تاريخ السجون اللبنانية، وربما في العالم.
يضيف الأمين منير: «أول سؤال طرح عليّ مباشرة كان من غابي لحود، بصفتي «المسؤول الأول» (وهذه التسمية الحزبية أعطيت مؤقتاً) عن السجناء القوميين «كيف استطعتم أن تصلوا الى هذا المستوى من النظام والتنظيم وتجعلوا من هذا السجن خلية إنتاجية على هذا المستوى؟» كان جوابي الفوري: «الفضل يعود كله الى الروح النظامية التي تشرّبها هؤلاء الرفقاء منذ اليوم الأول لاعتناقهم العقيدة القومية الاجتماعية».
قاطعني الضابط لحود ولم يدعني أكمل حديثي، وشعرت فوراً أنه لا يريد الاستماع الى محاضرة في العقيدة والنظام والتنظيم، ثم غيّر مجرى الحديث وقال: «نحن جئنا لا لنسمع محاضرة عن العقيدة القومية الاجتماعية، ولا عن النظام والتنظيم اللذين تفتخران بهما. نريد أن نعرف عملياً، كيف تمكنتم، وأنتم سجناء، من تحقيق هذه الأعمال؟»
عندها شرحتُ لهم بالتفصيل كل الخطوات التنظيمية التي قمنا بها لتحويل السجن الى خلية إنتاجية، من جهة، والى مدرسة تنتج فكراً وصناعة وثقافة وفناً. ثم أسهبت في الحديث أنّ العدو الأول للسجين، ولكلّ إنسان، على الإطلاق هو «الفراغ» – هذا الفراغ القاتل للروح والنفس والعقل وحتى الجسد. لذلك كان لا بدّ لنا من معالجة هذه المشكلة أساسا،ً وسد هذا الفراغ قبل البدء بأي عملية تأهيلية للسجين. وهذه المعالجة لا تتم إلا بالعمل والإنتاج، لأن العمل قبل كل شيء، كما يقول المفكر الفرنسي فولتير: «ينقذ الإنسان من آفات ثلاث: الفقر والملل والرذيلة». ونحن في هذا المعتقل قتلنا الملل والفقر والسأم والرذيلة، وحققنا حاجة بيولوجية – فيزيائية – نفسية في آن.
«استمر الحديث على هذا المستوى حوالي خمسين دقيقة، والوفد الثنائي، لحود والبنا، يطرح السؤال تلو السؤال، وشعرتُ فعلاً بنشوة الحديث كما شعرا هما أيضاً بالشيء عينه، وبدافع فضولي غريب. كان ذلك طبعاً في غرفة صغيرة منفردة، حتى انتهى الحوار بالسؤال الذي كان كما يبدو في ذهن لحود عندما التفت الى زميله البنا وقال بالحرف الواحد: «يا محمود، الدولة تفكر جدياً ومنذ زمن بعيد بالاستعانة بخبراء من بريطانيا لمساعدتنا في عملية تأهيل السجون والمساجين في لبنان، والظاهر أن لدينا «الدك» (وكأنه يحاول أن يقول الدكتور) ولكنه غيّر لهجته وأكمل: يبدو أنّ منير خوري هنا يستطيع أن يقوم بهذه المهمة». ثم التفت إليّ موجهاً السؤال: «شو رأيك يا منير؟» ابتسمت وأجبته فوراً ودون تردّد انني مستعدّ لكل خدمة استطيع أن أؤديها في هذا الحقل الإنساني – التربوي، ولكن لي طلب بسيط لا بدّ من تحقيقه قبل البدء بهذه المهمة الإصلاحية – التأهيلية الكبرى. فهل استطيع مثلاً، الحصول على الضوء الأخضر بإدخال جميع المواد التربوية من كتب ونشرات وأقلام، وإلقاء بعض المحاضرات، وإدخال الموسيقى، وإلى ما هنالك من أمور ومعالجات تربوية؟ ثم قبل كل شيء، لا بد من الامتناع عن جميع أنواع الضرب والإهانة والأذى والإذلال المادي والمعنوي عن السجناء المُراد تأهيلهم؟ عندها ابتسم وهز رأسه قائلاً: «لا، لا هذا مستحيل».
من جهته يوضح الأمين ابراهيم زين في كتابه، ما يلي: «وفي حقل التدريس، كان الرفيق حنا قيصر(11) معلم المحاسبة والرفيقان محمد وشقيقه عبد الحفيظ عطايا(12) يعلمان الانكليزية، كما تطوع الكثيرون لمكافحة الأمية وتعليم الرفقاء مبادئ القراءة والكتابة، ومن الذين تعلموا بعد أن كانوا اميين، الرفيق حسين الجميلي، وهو من سكان البادية، قرب حمص, وعدد آخر من الرفقاء أمثاله.
بقينا في سجن القبة حتى خريف العام 1966، ثم نقلنا الى سجن القلعة في بيروت، بعد إضراب عن الطعام استمر قرابة الثلاثة اسابيع.

وجّه الأمين منير خوري بصفته المسؤول الاول عن سجن القبة رسائل توجيهية في المناسبات الحزبية اضافة الى مقالات عقائدية، لمزيد من التثقيف القومي الاجتماعي.
من تلك الرسائل والمقالات اخترنا الكلمة الموجهة الى الرفقاء الاسرى في ذكرى تأسيس الحزب بتاريخ 16/11/1964:
«أيها الرفقاء،
هذه هي الذكرى الثالثة التي نحتفل بها في هذا السجن، والثالثة والثلاثين في حياتنا العامة، فننهي بذلك اعيادنا القومية لهذه السنة ويكتمل بها ثالوث حياة زعيمنا الخالد.
غير ان الحدث الذي نحتفل بذكراه اليوم – ذكرى التأسيس – يختلف عن الحدثين السابقين: مولد الزعيم واستشهاده، في امر اساسي هام، وهو انه فيما تخضع جميع احداث الولادة والموت الى الحتميات الطبيعية، يرفض الحدث الذي نحتفل به الآن، الخضوع الا الى الإرادة الإنسانية الخلاقة.
فبينما يذكرنا الاول من آذار بولادة الربيع وبهجة الحياة وعبقرية الزعيم،
ويذكرنا الثامن من تموز بحرارة الايمان وثورية الروح واستشهاد المعلم،
يذكرنا السادس عشر من تشرين الثاني بصناعة التاريخ وبناء الحضارات ومعنى الخلود الحقيقي.
الولادة والموت أمران محتمان وليس للإنسان من سلطة عليهما، واما المساحة التي تفصل بينهما فليس فيها شيء من الحتمية، بل تخضع بكاملها الى الإرادة الإنسانية. لقد اختصرها الزعيم بوقفة عز وخلّد نفسه بيوم واحد، هو السادس عشر من تشرين الثاني.
«ولد الزعيم سعاده فرأى نفسه امام قطعان من البشرية تمشي بفعل عامل قوة الاستمرار، تسير من المهد الى اللحد، تبدأ بالعدم وتنتهي بالعدم، وكأن احدا لم يكن.
وكغيره من عظماء التاريخ، أبى الزعيم ان يستمر مع الجماهير المقيّدة بسلاسل العبودية الراضخة لمشيئة القضاء والقدر، المستسلمة لحتميات الطبيعة. وقف يتحدى الزمن والتاريخ والقضاء والقدر، قائلاً: لا، لن أخطو خطوة واحدة قبل ان اعرف من أنا؟ الى أين؟ ولماذا؟
خلا الى نفسه ونفذ الى أعماق أعماقه عله يصل الى ذاته الإنسانية فيكلم الإله فيها كما كلم من قبله العباقرة والرسل والأنبياء آلهتهم. وهناك وجد ضالّته الأولى فعرف انّ «الأنا» هي ذات اجتماعية.
قرأ ودرس وفكر، ثم القى نظرة شاملة من اعالي الجبال الشامخة فرأى حدود بلاده واضحة جلية، وأطلّ على امجاد امته الغابرة، فرأى فيها الحق كل الحق والخير كل الخير، والجمال كل الجمال.
ثم عاد والتفت في ما حوله، فرأى الجماهير التي انفصل عنها منذ زمن بعيد قريب لا تزال تتخبّط في سيرها كالخراف الضالة:
فمنهم من اسرف في تصرفاته في دنياه وكأنه يعيش ابداً، ومنهم من بالغ في تصوفه وانكماشه على نفسه وكأنه يموت غداً، ومنهم من اعتبر حياته نزهة جميلة ليس ألاّ، فغاص في ملذاته وميوعته ولامبالاته.
هز الزعيم رأسه ثم انتفض قائلاً: لا، لن اخطو خطوة واحدة مع هذه الجماهير الببغاوية بعد الآن. انهم لا يعلمون ماذا يفعلون. لا، لا يمكن ان تكون حياة الإنسان بهذا الرخص: من المهد الى اللحد؟ من العدم الى العدم؟ لا، فالمسافة التي تفصل ولادة الإنسان عن موته لا يمكن ان تقاس بمقاييس الزمان والمكان، وعمر الإنسان ليس بالسنين المعدودة التي يعيشها. ان حياة الإنسان لأعمق من ان تقاس بمقاييس زمنية، واهم من ان تقيّم بترف مادي مكاني.
الحياة ليست وسيلة لغاية، فهي أقدس وأطهر من ان تنزل الى مرتبة الوسيلة. انها الوسيلة والغاية في آن واحد.
لا، لن أخطو خطوة واحدة بعد الآن مع هؤلاء العبيد الذين عبدوا كلّ شيء وآمنوا بكل شيء.. إلا بأنفسهم.
نعم عليّ ان أنقذهم وأغيّر سبيلهم، ففي نفسي، كما في نفوسهم، قوىً لو فعلت لغيّرت مجرى التاريخ.
وهنا سكت الزعيم بعد ان ارتسمت على فمه ابتسامة النصر، وعاد الى عرزاله المتواضع الشامخ، فكان الأساس، وكان البناء، بناء النهضة القومية الاجتماعية.
«أيها الرفقاء، أيها القوميون الاجتماعيون،
عيد التأسيس كلمة، والكلمة نتاج حضاري، والنتاج الحضاري – كل نتاج حضاري – له وجهان:
وجه مادي، ووجه روحي. هذا هو اساس فلسفتنا المدرحية.
والتأسيس، بوجهه المادي لا يختلف كثيراً عن وجهه الروحي، فهو كقطعة النقود، ذات وجهين مختلفين في الشكل، متحدين في الجوهر.
وعملية التأسيس بوجهها المادي لها معان عديدة تظهر بمراحل أربع:
1 ـ عملية الحفر العميق،
2 ـ الوصول الى القاعدة الصخرية،
3 ـ عملية الصهر،
4 ـ عملية الانطلاق.
يقابل هذه المراحل الأربع في التأسيس المادي مراحل أربع في عملية التأسيس الروحي التي لا بد لنا، ونحن نحتفل بهذا العيد: عيد التأسيس، ان نستوعب مفهومها استيعاباً تاماً لنرى فيما اذا كان البناء القومي فينا مستوفياً جميع الشروط المذكورة اعلاه.
لنضع انفسنا اليوم تحت مجهر ضميرنا القومي، ولنحكم على متانة الاساس الذي نحتفل بذكراه.
أولاً: في عملية الحفر العميق، علينا ان ندرك ان الحركة القومية الاجتماعية هي ثورة في… قبل ان تكون ثورة على…
يجب ان نعلم ان القومية الاجتماعية بالمعنى الصحيح ليست في حفظنا المبادئ واستيعابنا للفلسفة القومية، حتى ولا في ثورتنا بوجه الطغيان، وحملُنا سلاح الجهاد وحسب، بل انها ليست شيئاً، من هذا ان لم تدخل هذه الثورية وتترسّخ هذه المبادئ في أعماق أعماقنا وتغير شخصيتنا من الداخل كما غيرتها من الخارج. كما جاء في جواب رفيقنا الذي قال لاحد المحققين: أنا لم أدخل الحزب القومي بل هو الذي دخل فيّ. ليس أجمل من هذا الجواب على ما نعنيه بالمرحلة الاولى من التأسيس، اي مرحلة التعمّق في الحفر.
ثانياً: مهما تعمّقت المبادئ القومية الاجتماعية فينا تبقى عرضة للخطر ما لم ترتكز جميعها على صخرة الاساس،
وهذه الصخرة عندنا هي ذاتنا الإنسانية التي لا بدّ لنا من اكتشافها وتأسيس حياتنا عليها. هذه الذات التي ينكرها علينا الماديون المتطرفون، كما ينكرها علينا الروحانيون – القضاء – قدريون.
فالفئة الأولى تنظر الى الإنسان نظرة الكيمائي الى اي مادة تخضع للتحليل الكيمائي وتجعل منه سلعة مادية وقطعة ميكانيكية خاضعة لفعل عوامل الطبيعة.
والفئة الثانية ترى الإنسان عبداً حقيراً مُسيّراً بقدرة إلهية خفية. فلا ترى في حياته على هذه الأرض سوى وسيلة، لا أكثر ولا أقل، لحياة أخرى في عالم غير عالمنا ودنيا غير دنيانا. اما نحن فننظر الى الذات الإنسانية الكامنة فينا نظرتنا الى الله، ونعتبر ان هذا الإنسان الذي قزّمته الفئات الأخرى، يحوي في أعماقه قوة، ان اكتشفت وفعلت لغيّرت مجرى التاريخ.
ثالثاً: ان عملية التأسيس الروحي، كعملية التأسيس المادي، لا يتم لبناء فيها ما لم تجر تنظيفات اساسية عامة. فكما انّ الاسمنت لا «يعشق» على صخرة ملوثة بالتراب والاوساخ، كذلك المبادئ القومية الاجتماعية لا تتفق والأدران العالقة فينا من المجتمع الفاسد. لا بدّ لنا في عملية التأسيس من تنقية نفوسنا وعقولنا من جميع التقاليد الرثة البالية والعادات الفردية الهدامة، وصهرها في العقيدة القومية الاجتماعية. فالقومية الاجتماعية الصافية هي في التخلص من جميع الأوساخ والأدران التي تمنع التحامه الوثيق بين اسمنت العقيدة وصخرة الذات.
رابعاً: واخيراً، ولكن ليس اخراً، ان عملية التأسيس ليست غاية في نفسها. انها وسيلة لغاية أهمّ وأعظم: انه البناء. والبناء في وجهه الروحي يعني النمو والتقدم المستمرين. انه، كأي كائن حي، ينمو ويكبر ويتقدم، ولكنه قد يقف عن النمو فيتحجر ويموت. وحياته او موته يتوقف على الانطلاقة من قاعدته الاساسية التي تحمل البناء. وانطلاقتنا في الحزب السوري القومي الاجتماعي كما وصفه سعاده لم تكن محدودة لتنغلق وتنكمش فيحكم عليها بالموت، ولا هي بالنظرية المتطرفة التي لا تطبّق عملياً فتنفلش وتندثر. ان انطلاقتنا مبنية على وقائع علمية ثابتة، تبقى جذورها غاربة تتغذى من ارضها الطيبة الاصيلة، وأغصانها متشعّبة في الفضاء – فضاء العالم الفسيح اللامتناهي.

هوامش:
1 ـ صدر الحكم بالإعدام على كلّ من العسكريين: الأمينين شوقي خيرالله وفؤاد عوض، والرفيق علي الحاج حسن، وعلى خمسة آخرين: الأمناء عبد الله سعاده، محمد بعلبكي، بشير عبيد، محسن نزهة، والرفيق جبران الأطرش.
2 ـ أوغست حاماتي: تولى مسؤوليات في عمدة الدفاع، وناظراً للتدريب في منفذية طرابلس، شارك في الثورة الانقلابية وأُسر لمدة 4 سنوات. غادر الى المهجر ولا يزال. شقيقه الأمين هنري حاماتي.
3 ـ وردت أيضاً في كتاب الأمين منير خوري.
4 ـ نجيب إسكندر: أديب وإعلامي. كان مراسلاً لجريدة «النهار» في شمال لبنان. من زغرتا. منح رتبة الأمانة وتولى مسؤوليات حزبية عديدة. توفي عام 2012.
5 ـ سليم متري: من عكار . نشط حزبياً بعد خروجه من الأسر متولياً مسؤولية العمل الإداري في لبنان في فترة العمل السري الى جانب الأمين الراحل خليل دياب. غادر الى سيراليون وفيها تولى مسؤولية العمل الحزبي. عاد الى الوطن وفيه فارق الحياة.
6 ـ إبراهيم زين: أديب وشاعر. تولى مسؤوليات مركزية منها عمدة الإذاعة، ومنفذا عاماً في أكثر من منفذية. انتخب عضواً رديفاً في المجلس الأعلى.
7 ـ فؤاد ذبيان: شاعر معروف، من منارات العمل القومي الاجتماعي في الشوف. تولى أكثر من مرة مسؤولية المنفذ العام فيه.
8 ـ حسن رؤوف حسن: من الشوف. عمل في الصحافة، وتولى مسؤوليات حزبية منها منفذ عام الشوف. مناضل صادق ومناقبي.
9 ـ من أبرز الذين اهتموا في تلك الفترة: السيدة ليلى جدع، وكان الرفقاء الطلبة يقومون بجهد مميّز عبر تنظيم حضورهم في الأماكن التي تعرض فيها منتوجات الرفقاء الأسرى.
10 ـ تأمّن الحصول على عدد من الشهادات بواسطة الرفيق سمير صيقلي الذي تابع الأمر مع والده سامي صيقلي الذي كان يملك معهد لبنان للمحاسبة.
11 ـ حنا قيصر: تولى مسؤولية خازن عام للحزب عام 1981. مُنح رتبة الأمانة. غادر الى الإمارات العربية المتحدة وبقي ناشطاً حزبياً حتى وفاته.
12 ـ الرفيق محمد عطايا: والد العميد الرفيق هملقارت عطايا. كان وشقيقه الرفيق عبد الحفيظ، من مناضلي الحزب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى