أخيرة

“سأكون دائماً في انتظارك” (وفاء المرأة عبر العصور)

سارة طالب السهيل

الوفاء قيمة من أعلى وأرفع القيَم الإنسانية التي تزدان بها النفوس الطيبة وتعمر بها القلوب الصافية والأرواح النورانية، وهذه القيمة على تراجع نسبتها خاصة في زماننا المغرق في المادية، إلا انها لا تزال موجودة لدى طرفي معادلة الحياة الرجل والمرأة كالحلّة الرقيقة الصافية القليلة والنادرة خاصة وقت الشدائد، وكما قال صفي الدين الحلي:
“لما رأيت بني الزمان وما بهم
خلّ وفيّ للشدائد اصطفي
فعلمت أنّ المستحيل ثلاثــة
الغول والعنقاء والخل الوفي”
فالوفاء أمانة في عنق بني آدم لا بدّ وان يوفيها لصحابها، و”إنْ أدى هذه الأمانة مات موفيا”، كما قال الأعشى :
و”إن امرؤ أسدى إليك أمانةً
فأوف بها، إن مت سُمّيت وافيا”
حفل التاريخ الإنساني بالعديد من القصص الإنسانية التي تبرز معاني وتجليات الوفاء بين المحبين والعاشقين والأزواج والأهل والأصدقاء، ووفاء الرجل متحقق للمرأة كما في قصة عنتر ووفائه لمحبوبته عبلة، وقيس ولبنى وغيرهما، لكن وفاء المرأة انجع وأقوى، فالمرأة تصبر على زوجها اذا كان مريضاً او عقيماً او فقيراً او مُبتلياً في المعاصي، بينما الرجل لا يصبر عليها لأتفه الأسباب.
وحياتنا الاجتماعية تشهد على العديد من قصص النساء اللواتي صبرنَ على ظروف الرجل المادية او الصحية، وساهمنَ معنوياً وايضاً مادياً في رفع شأن أزواجهنّ، في مقابل تحوّل الأزواج عنهنّ والزواج بأخريات بعد ان انتعشت ظروفهم المالية،
ومع وجود مظاهر عديدة لوفاء الرجل وفي حالات قليلة أعرف منها أكثر من حالة عندما يحب الرجل ويصدق ويوفي، لكن الأغلبية (إلا من رحم ربي) أو كان ملتزماً قد يخون عندما يتعرّض للحظات ضعف إنساني ضاغط عليه، وفي هذه الحالة تتخلى المرأة عن الرجل وتلفظه من قلبها عندما تفقد أيّ أمل في صدقه ومحبته لها وإخلاصه ووفائه.
أما الوفاء الخالص والصافي فلم تخلُ منه البشرية عبر كلّ الحضارات، كالحضارة المصرية القديمة التي تحتفظ حتى اليوم برسالة “دائماً في انتظارك”… التي بعثت بها الزوجة الوفية ميرت آتون لزوجها الغائب عنها بسبب حربه على الأعداء “سمنخ كا رع”. هذه الزوجة الوفية تؤكد في رسالتها لزوجها انّ انتظاره هو الأمل الذي تحيا به وتعيش لأجله، فما أبدع هذا الحب والوفاء والإخلاص لزوجة تذكر زوجها وتحفظ غيبته ومودته في قلبها رغم بعده عنها.
تقول ميريت في رسالتها: وما دامت تميمة حتحور تزيًن صدرك العريض وتوأمتها تزيّن معصمي… فستعود إليّ كما وعدتني بمحراب المعبد.. سأكون بانتظارك عندما تأتي، وسأرتدي أجمل أزيائي كالشجرة التي تتزيّن بأجمل أزهارها.
“سأكون بانتظارك” كعيدان القمح التي تتزيّن بسنابلها الذهبية لتستقبل طيور السمّان وتخفيه عن عيون البشر.
ولا غرابة ان نجد أسمى المعاني في الرسالة لأنها نابعة من موطن حضارة علّمت العالم معنى الإنسانية والوفاء، حضارة منحت المرأة ثقتها وعاملتها باعتزاز وكرامة وكشريك أساسي في بناء الأسرة، وليست مجرد وسيلة للهو او فقط طريقة للحصول على الأولاد.
فالمرأة في الحضارة المصرية القديمة كانت محلّ تقدير واحترام مجتمعها كملكة وطبيبة وقاضية ومحاربة وكاهنة وكاتبة وأمّ وزوجة، وهذا التقدير والاحترام قابلته بالوفاء والإخلاص.
أما التراث العربي فيحتفظ بقصة من النوادر في الحب لرجل من قبيلة بني عذرة، تزوج بحبيبته وابنة عمه تدعى “سُعدى”، لكن أباها رفض هذا الزواج وأخذ ابنته إلى بيته.
وذهب الزوج إلى والي المدينة، يشكو عمه ووالد زوجته، مروان بن الحكم، الذي سمع بجمال الزوجة فدعا أباها ودفع إليه عشرة آلاف درهم ليزوجها له.
وطلب مروان بن الحكم من الزوج أن يطلّق زوجته، ورفض الزوج، فحمله إلى السجن وعذّبه حتى لم يجد بدّاً من طلاقها مُكرَهاً، ولما استكملت “عدّتها” تزوجها مروان والي المدينة، وأطلق سراح زوجها كما يروي ابن قتيبة فى عيون الأخبار.
خرج الزوج من السجن إلى دمشق ليشكو ما حدث له ولزوجته إلى “الخليفة” معاوية بن أبى سفيان، فرقّ له معاوية، وأرسل إلى مروان كتاباً طلب فيه أن يطلّق (سُعدى) فطلّقها. ثم أمر معاوية بإحضار الزوجة، وقال لزوجها: يا إعرابي هذه (سُعدى) لكن هل لك من أفضل منها؟
فقال الرجل: وقد أدرك ما يقصد: (نعم) إذا فرقت بين رأسي وجسدي.
فقال معاوية: أعوضّك عنها ثلاث جوار أبكار، مع كلّ واحدة ألف دينار، وأجعل لك من بيت المال ما يكفيك فى كلّ عام.
أضاف معاوية: أنت مقرّ بأنك طلّقتها، ومروان مقرّ بأنه طلقها، ونحن نخيّرها، فإنْ اختارتك أعدناها إليك بعقد جديد، وإنْ اختارت سواك زوجنّاه بها، وسأل معاوية الزوجة ماذا تقولين يا سُعدى: أيهما أحب إليك أمير المؤمنين فى عزه وسلطانه أم مروان بن الحكم فى عسفه وجوره أم هذا الأعرابي فى فقره وسوء حاله؟
فأنشدت تقول :
هذا وإنْ كان فى فقرٍ وإضرارِ
أعز؟ عندي من قومي ومن جاري
وصاحب التاج أو مروان عامله
وكل ذي درهم عندي ودينار.
ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان، ولا لقدرات الأيام، وإنّ لي معه صحبة لا تنسى ومحبة لا تبلى، فتعجّب الحاضرون، وأمر معاوية أن يعقد لهما عقداً جديداً وأعطاهما ألف دينار.
فما أبدع الوفاء والحب عندما يخضعان قلوب الجبابرة وأهل السلطان، وليحيَ وفاء المرأة عبر العصور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى