أولى

مزامير بايدن والأفاعي الراقصة

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
على من تعزف مزاميرك يا بايدن؟ هذه غزة وليست شاشة هوليودية في صالة عرض مغلقة تسوّق البطولات الخارقة الممزوجة بنفحة إنسانية يدّعيها «السوبرمان» الأميركي الذي لم يكن يوماً إنسانياً قط، ولن يكون؟… على من تعزف مزاميرك وأبناء فلسطين كبقية أطراف محور المقاومة يؤمنون بأن لا علاقة لعصا موسى، عليه السلام، بربيبتكم المدللة وكيانها اللقيط من شذاذ الآفاق في شتى أنحاء المعمورة، بل على النقيض، فعصا النبي الكريم يحملها الصادقون في نبضهم الرافض لكلّ أشكال الفَرْعَنَةِ قديماً وحديثاً؟ وهذه العصا المباركة اليوم يقبض عليها بشغف وحب أبطال غزة، وقد ألقوها مرة في السابع من تشرين الأول فإذا بها تلقف كلّ ما كان يأفكه سحرة الهيكل المتداعي فوق رؤوس كهنته… نعم نحن من يؤمن بموسى وعيسى ومحمد وبجميع الأنبياء والرسل وليس أنتم يا من تتباهون بصهيونيّتكم التي لن تقودكم إلا إلى تسريع تقويض عرش جبروتكم وغطرستكم التي لم تعد تعرف سقوفاً، ويبدو أنكم ممن ينطبق عليهم قوله تعالى: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين).
عن أي ميناء عائم يتحدّث الرئيس الأميركي؟ وهل يظن أنّ من تدرَّع النور جلباباً، والحقَّ منهجاً والبصيرة مرشداً ودليلاً، والإرادة وسيلة لكبح جماح الظالمين يمكن أن يصدق من تنزُّ أشداقه بدماء الأبرياء من أطفال غزة ونسائها وشيوخها ومرضاها؟ هل يمكن لمن هندس السابع من تشرين الأول أن تنطلي عليه أحابيلكم المفضوحة بأهدافها ومراميها…؟ لا أحسب أن من يملك ذرة من عقل وبصيرة يمكن أن يصدق أنّ إدارة أميركية حريصة على رفع الظلم عن مظلوم، أم مهتمة بإيصال مساعدة إنسانية لأيّ شعب في العالم إلا عندما تمهّد مثل تلك المساعدة الشكلية لسرقة ما أمكن من ثروات وحقوق وكرامة. وهذا ديدن الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عقود وعقود، وليس هذا فحسب، بل العالم بكليّته على يقين أنه حيث يدسّ الأميركي أنفه النتن تسيل الدماء البريئة، وينتشر القتل والموت والدمار والكوارث والجرائم التي يندى لها جبين الإنسانيّة، وخير شاهد على ذلك ما تفعله إدارة بايدن منذ تداعيات الموجات الأولى لطوفان الأقصى…
عذراً بايدن أفندي فأنا كغيري ممن تجاوزوا الأمية السياسية ندرك أنّك تخطيت الثمانين من عمرك، وأنك تفتش عن أمك الميتة منذ سنوات وأنت على منابر الحديث والخطابة، وندرك أنّ «مجلس الإدارة» الذي أوصلك إلى مقر إقامتك في واشنطن يحسن استثمار ما يريد من خرفك، فاعزف بمزاميرك المعطوبة بعيداً عمن أعطبوا تلك المزامير. وأخال أنّ أقرب المقرّبين لك على يقين أنّ كلّ مهتمّ بالشأن السياسي وتوازن القوى إقليمياً ودولياً يهتمّ بما قد يقوله يحيى السنوار أضعاف اهتمامه بتخرّصات كهول السياسة ممن يستمتعون بلعق الآيس كريم على وقع شلال الدم الإنساني في شتى أنحاء المعورة…
قد يكون هناك من لا يزال ينبهر بما تروّجه الإمبراطوريات الإعلامية الغربية، وبعضهم قد يظنّ أن هذه الإدارة الأميركية أو تلك قد يصدر عنها ما يخدم إنسانية الإنسان، ولا يستبعد أن يكون بين صفوف أولئك من يقنع نفسه بأن طرح بايدن بإقامة ميناء عائم يصبّ في مصلحة أهل غزة، ويساهم بتخفيف معاناتهم التي فاقت كلّ تصوّر وآلامهم التي تجاوزت كلّ ما قد يخطر على الذهن، وإلى من يريد إعمال العقل من أولئك أشير باختصار وتكثيف إلى بعض العناوين والأفكار الكفيلة بإثبات أن ما يطرح ليس أكثر من «كلام حقّ يُراد به باطل»، وهو بجوهره خطوة مدروسة مسبقاً ومعدّة بإتقان للوصول بها إلى هذه المحطة، ومن القرائن الدالة على ذلك:
*مئات الشاحنات المحمّلة بما يحتاجه الفلسطينيون مركونة على الجانب المصري من معبر رفح، فلماذا تمنع من الدخول وتخفيف حدة الوحشية الإسرائيلية والانتقام الممنهج من أهل غزة الذين لا ذنب لهم إلا أنهم غزاويّو المولد؟ لا أدري إنْ كنتُ ملزماً هنا بتذكير السيد بايدن بأنّ ما يفصل تلك الشاحنات عن غزة هو بضع بوابات أرتج أقفالها كرمى لعيون حكومة نتنياهو وبمباركة وإشراف مباشر من قبل إدارة بايدن، في حين أنّ نقل المساعدات إلى معبر عائم يزمع إنشاؤه يتطلب دخول المواد إلى ميناء قبرصي أولاً، وإعادة عبورها مئات الأميال باتجاه ميناء أسدود لتقوم سلطات حكومة نتنياهو بتفتيشها وفق ما يروق لها والتحكم بما يدخل وما لا يدخل، ثم العودة بها باتجاه مرفأ بايدن، فلماذا كل ذلك يا رعاكم الله؟
*سبق أن تمّ الحديث عن إمكانية ترحيل أهل غزة الذين أرغموا على الخروج من بيوتهم بعد تدميرها فوق رؤوس الأطفال والنساء عبر إقامة مخيمات نزوح مؤقتة على الشاطئ. ومنها يتمّ نقل المرضى إلى مشافٍ عائمة، ويمكن نقل الراغبين بالمغادرة إلى سفن جاهزة لتنفيذ التهجير طوعاً أو كرهاً، ولم يحظَ هذا المشروع المفضوح بأيّ فرصة للنجاح. ومن حق المتابع العادي أن يتساءل: ألا يمكن أن يكون المرفأ العائم المطلوب إنشاؤه نسخة مطوّرة عما تمّ الحديث عنه سابقاً لفرض التهجير على سكان غزة تحت عنوان الهجرة الطوعيّة؟
*نقلت صحيفة بوليتيكو الصادرة بتاريخ 10/3/2024م عن نتنياهو قوله: (إيصال المساعدات بحراً إلى غزة فكرتي، ولا توجد مجاعة في غزة). وهذا ما أكده الإعلام الإسرائيلي عبر أكثر من منصة، حيث ذكرت صحيفة معاريف الصادرة بتاريخ 10/3/2024 نقلاً عن مسؤولين إسرائيليين أنّ مشروع إقامة رصيف في غزة طرحت في مناقشات جرى تداولها في الداخل الإسرائيلي بصيغ مختلفة. وقد تحفظ بعض المسؤولين العسكريين عليها من منطلق عسكري يتخوف من العجز عن التحكم الدقيق المطلوب مع مرور الوقت، وأضافت معاريف عن المسؤولين قولهم: إنّ مناقشة الموضوع تمّت منذ أكثر من شهرين واليوم تبنّى بايدن الطرح الإسرائيلي. كما ذكرت جيروزاليم بوست في عددها الصادر بتاريخ 11/3/2024 نقلاً عن وكالة رويترز أنّ نتنياهو هو الذي أعطى فكرة الميناء المؤقت لبايدن منذ أشهر مضت، وتحديدا ًبتاريخ: 31 /10/2023م بعد بدء عملية الدخول البري لاقتحام قطاع غزة، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل يُعقل أن يكون نتنياهو حريصاً على تقديم المساعدة للفلسطينيين الذين مرّغوا وجوه جنرالاته وجيشه وكيانه بأوحال الفشل والعجز عن تحقيق أيّ هدف استراتيجي تم الإعلان عنه، بغضّ النظر عن الإفراط غير المسبوق بالتوحش والعدوانية؟
*كيف تستقيم دعوة بايدن لإقامة ميناء عائم لتقديم المساعدة للغزاويين، وهو نفسه من أكد في خطابه الذي أعلن فيه قراره بإقامة الميناء فقال: (ليس هناك خط أحمر تجاه «إسرائيل»، ولن أتخلى عنها أبداً، ولن أقطع عنها الأسلحة). وحبذا لو أنّ أحد المعجبين بالنزعة الإنسانية الأميركية أن يشرح لنا كيف يستقيم جمع النقيضين بلسان واحد، ومن على المنبر نفسه؟
*العديد من القراءات والتحليلات صدرت في الأيام القليلة الماضية، ومعظمها أشار إلى علاقة المرفأ العائم بالكميات الكبيرة من الغاز قبالة سواحل غزة، أي أنها خطوة استباقية تمّ التمهيد لها بتشديد الحصار الخانق، ليقوم من نفذوا الحصار بتسويق أنفسهم كأبطال تسكنهم المشاعر الإنسانية ويعلنون إقامة المرفأ ــ ليس لتقديم مساعدات إنسانية إلى شعب غزة، بل ـــ ليضمن لهم شرعنة الوجود العسكريّ، وبالتالي التحكم بالمنطقة براً وبحراً وبكل ما يحويه من موارد وثروات.
*كلّ المعطيات تؤكد أنّ واشنطن شريك كامل المسؤوليّة في كلّ ما تعرّض له الفلسطينيون وما يزالون يعانون جراء الجرائم الوحشية التي ينفذها الأميركي والإسرائيلي معاً كتفاً إلى كتفٍ ويداً بيد، ومحال أن يعلن بايدن أو غيره من المسؤولين الأميركيين عن أي أمر يتناقض والاستراتيجية الصهيونية لحكومة نتنياهو التي ما كان لها أن تستمر في إجرامها الوحشي إلا بحماية واشنطن.
خلاصة وهمسة…
قد يهمس بعض المتابعين في أذن غيره: هل يُعقل أن هدف واشنطن من ذلك وضع القدم على شاطئ غزة كمقدمة لإقامة قاعدة عسكريّة لا تقلّ إمكانياتها عن القاعدة الروسية على الساحل السوري في حميميم؟ وماذا لو كان كلّ ذلك جزءاً من طريق بايدن القادم من الهند إلى الخليج فالأردن فالكيان الإسرائيلي لقطع الطريق على المشروع الصيني «الحزام والطريق»؟ وقد يكون ذلك مقدمة لتفادي خروج ميناء حيفا عن الخدمة إذا امتدّت ألسنة اللهب وتوسّعت دائرة الحرب بين حزب الله وكيان الاحتلال، أو لتفادي آثار الحصار الذي فرضه اليمن على السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية…
كلّ ما ذكر عناوين مهمة تستحق التوقف عندها، وهناك قاسم مشترك يقول لبايدن: مزاميرك لا تعنينا، وإن كانت تخرج الأفاعي لتتراقص على أنغامها، وتوزّع الأدوار للدغ كلّ من يقترب من الهيبة والنفود الأميركي والقضاء عليه، وإلى الزمار وفراخ الأفاعي المتراقصة والمعجبين بهم نقول: نحن من نجيد إخراج الأفاعي السامّة من جحورها، ونتقن كيف يمكن قطف سمومها القاتلة، وتحويلها إلى ترياق وعلاج، فلا تستعجلوا الآجال.
*باحث سوريّ متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجيّة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى