مقالات وآراء

الجنوب عرين المقاومة والعيش الواحد

‭}‬ عباس قبيسي
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (المائدة 82).
في الديانة المسيحية، الرهبان هم أشخاص كرّسوا حياتهم لخدمة الله من خلال الصلاة والتأمّل، حيث يتبعن مجموعة من القواعد والتقاليد التي تساعد على التقرّب من الله وممارسة إيمانهم. تأخذ الرهبان عهود الفقر والعفة والطاعة، مما يعني نبذ الممتلكات المادية والعلاقات والرغبات الشخصية والالتزام الكامل بإيمانهم، من خلال عيش حياة بسيطة ومتواضعة، ويسعون إلى تقليد المسيح، الذي عاش حياة الفقر ونكران الذات، ويظهرون إخلاصهم لله واستعدادهم لخدمة الآخرين بالحب والرحمة، كما يقومون بأعمال الخدمة الخيرية، ورعاية المرضى والفقراء والمهمشين، ويشاركون أيضاً في عمل الكنيسة، حيث يخدمن في المدارس والمستشفيات التي تساعد على نشر رسالة المسيح.
وبالعودة إلى الراهبة الأخت مايا زيادة وردّ الفعل المُبالغ به على كلمتها أمام طلابها التي كان عنوانها «كيف أنا بعمل وطن اذا ما بعرف حِبّ، بالجنوب في تلاميذ بعمركم بيقولوا نحنا ما عنا أحلام غير إنو نحمي أرضنا، اليوم بدنا نصلي للجنوب، لأطفال الجنوب، لأهالي الجنوب، لأمهات الجنوب، لرجال المقاومة لأنو هول رجال من لبنان هول رجال عم يتعبو ليحمو هيدا الوطن، وإذا نحنا ما صلينالن وما حبّيناهم بغضّ النظر عن شو منفكر منكون خونة بحقّ أرضنا وبحق وطننا وبحق كلّ كتاب منفتحو ومنقرأ فيه، منقول للعذراء تحمي شبابنا وولادنا ووطننا لأنو عم يمرق بمحنة كثير صعبة وما في غير المحبة والتعاضد بيجمعنا وبيقوّينا»…
لم يستسغ البعض طلب الراهبة المؤمنة مايا زيادة للتضرّع والصلاة التي ظهرت على لسانها بعفوية في محضر أطفالٍ بعمر الورد، فانهال البعض على صلاتها ورجمها بالحجارة، لأنها طلبت من تلامذتها الصلاة لنساء وأطفال ورجال الجنوب المقاومين ضدّ عدو غاشم لا يفرّق بين الرضيع والكبير والحجر والبشر، ولا بين أيّ مذهب أو طائفة أو قرية مهما كان إنتماؤها المذهبي، وذلك في الشهر السادس من الحرب الهمجية الغاشمة التدميرية في فلسطين وعلى طول الحدود اللبنانية، وما زالت القرى الجنوبية صامدة مقاوِمة رغم التضحيات الجسام التي تقدّمها على مذبح الوطن من دماء الشهداء وآهات الجرحى وآلام النازحين والمعذبين، متمسّكين بنهج لا يحيدون عنه قيد أنملة في التزام القضية الكبرى والدفاع حتى تحرير الأرض المحتلة وتطبيق القرار 1701، ومعهم أصبح الجنوب رقماً صعباً في معادلة المنطقة وحجر الرحى في الكلام ومقالاً لكلّ مقام، وغدا فاكهة في غير أوانها، وبات يدفع ضريبة الدم والدمار والتهجير عن جهات الوطن الأربع، وأصبح فخاً يستدرج العدو الصهيوني ليستنزفه ويوقع به الخسائر الموجعه، بعدما غمس في العقود الماضية ريشته في دمه وبدأ بكتابة فصل الانتصار الجديد وخرج من حروبه متألقاً وضده خسرت «إسرائيل» كلّ حروبها ولم تنتصر منذ حرب الأيام الستة عام 1967 باعتراف العديد من الكتاب والمفكرين الصهاينة.
أيّ لبنان نريد؟
لبنان الذي نريد وطن العيش الواحد الذي ينبذ الطائفية وتقاليد الانتداب، وفولكلور المتصرفية، وطن الإمام موسى الصدر والبطريرك أنطونيوس خريش الذي كان مطراناً وكان من مؤسّسي «هيئة نصرة الجنوب» وقبله البطريرك المعوشي والياس الرابع وجمع غفير من علماء الدين والرهبنة واللاهوت المسيحيين من مختلف طوائفهم، وقد قال البطريرك خريش (1974) «لقد دخل الإمام الصدر الى الكنائس كأنها مساجد والمساجد كنائس، صاحب فكر انفتاحي حضاري، يؤمن في وطنه لبنان بلد التعايش الاسلامي – المسيحي»، ويضيف البطريك خريش «لقد سهرنا مع الإمام الصدر ليال كثيرة في سبيل منطقتنا الجنوب واستطعنا منع الفتنة التي كان يحيكها المتضرّرون من العيش المشترك، لقد استقبله المسيحيون في دبل وعين ابل والقوزح والقليعة ومرجعيون، كما كان يستقبله أهل معركة وشحور وصور والصرفند والسكسكية».
هذا الجنوب المقدس الذي طلبت له الصلاة الراهبة زيادة هو جنوب الشهداء بلال فحص وسناء محيدلي وراغب حرب وطوني أبي غانم وغيرهم من آلاف الشهداء على مذبح الوطن، الذين لا ينعسون في ذاكرتنا، هؤلاء الذين أعادوا لطيور الجنوب حريتها ولمحاصيل القمح والتين والزيتون عافيتها ولشتلة التبغ المُرة صمودها بعد انتكاسة كبيرة أصابتها في ثمانينات القرن الماضي، وباتت شتلة الصمود تشبك قرى الجنوب ببعضها على امتدادها، فهي الخيط الذي يصل ما بين فلاحي القرى بجميع مذاهبهم وانتماءاتهم، وبقدرتها على ضخ الحياة للصامدين، بعدما كان العدو الإسرائيلي يجول في القرى فيهدم المنازل ويحرق المحاصيل ويسرق أحلام نومهم في نصف غفوتهم أو في نصف يقظتهم.
ختاماً، باختصار مع مداخلة للمطران المشرقي عطالله حنا الذي قال بأنّ الدفاع عن الأراضي المحتلة وفلسطين هو واجب وطني وإنساني، وفلسطين هي مهد المسيح وهي أرض القيامة، والقدس مدينة الانتصار على الموت، والدفاع عن فلسطين هو الدفاع عن تراثكم وتاريخكم، وعن تأييده للأخت مايا زيادة قال «إنها عبّرت عن موقف تؤمن به وقامت بالواجب ومن يحرّض عليها لا يفهم شيئاً»…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى