مقالات وآراء

لاءات الحريديم: الزلزال الاجتماعي الكبير رهن بوار مواسم العلمانية

‭}‬ د. رضا الشّاب
لاءات كبيرة رفعها زعماء قبيلة الحريديم أمام الحراك السياسي والشعبي المطالب بارتداء «أصحاب التوراة» البزة الزيتية للجيش دفاعاً عن «إسرائيل» في حرب «الحفاظ على الوجود»، وهو ما أجّج الصراع القبلي بين يهود الحريديم والصهاينة العلمانيين وفتحه باتجاه الماضي المؤسس للكيان على أرض فلسطين المحتلة، وتحديداً عام 1948، حين منح بن غوريون، وهو اليهودي العلماني غير المبالي بالتعاليم التوراتية، امتيازات لذاك المجتمع الصغير من «اليهود التوراتيين»، كان أبرزها إعفاؤهم من الخدمة العسكرية والسماح لهم بإنشاء مدارس خاصة وتجمعات سكنية منفصلة، مقابل اجتذابهم إلى «أرض الميعاد».
تنازلات لم تشغل بال بن غوريون في زمن لم يتجاوز فيه عدد المنكفئين على التوراة بضع مئات، لكن مع تقادم السنين وارتفاع خصوبتهم الإنجابية، أصبحت مسألة الحريديم ضيفاً دائماً على طاولة المواضيع الساخنة اجتماعياً وسياسياً في «إسرائيل»، ولا تقلّ سخونتها عن قضايا «قبيلة عرب 48»، خصوصاً بعدما باتت تشكل قبيلة الحريديم نحو أربعة عشر بالمئة من تعداد مستوطني الكيان المحتل لفلسطين. ومع ذلك فإنّ نفوذها ضمن أجهزة صنع القرار كبيرٌ، حيث تستمدّ الأحزاب الدينية قوتها من كرم الساسة «الإسرائيليين» في مواسم تشكيل الحكومات لنيل ثقة الكنيست.
وفيما تتقلص الجغرافيا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والقضائية والبشرية التي يسيطر عليها النظام العلماني لصالح نفوذ «الصهيونية المتدنية» و»الحريديم»، وهو ما انفجر مؤخراً قبيل معركة طوفان الأقصى في ساحات التظاهر والتظاهر المضاد بين المعسكرين العلماني والمتشدّد ضدّ ومع التغييرات القضائية المستحدثة، تتعالى أصوات النخب الأكاديمية العبرية في وصف بيئات اجتماعية «إسرائيلية» تتفجّر من داخلها وتلجأ بعض مكوناتها المتشدّدة إلى الأحضان التوارتية، بحيث أضحت تشكل قواعد انتحار لنسيج مجتمعي هشٍ جمع لعقود القبائل الأربع: العلمانيون، الصهاينة المتدينون، الحريديم وعرب 48.
دوركايم: التفكك الاجتماعي بالابتعاد عن تشارك الجماعات في تحقيق الأهداف الكبرى
إذن، ما الذي يحصل اليوم في مجتمع الكيان؟ في معرض إزالة علامة الاستفهام الأخيرة، نفتح نوافذ الضوء على الخريطة الاجتماعية لـ «إسرائيل» ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، حيث انخرطت شرائح المجتمع كافة عسكرياً في الحرب على غزة، باستثناء مجتمع الحريديم المنزوي بعيداً عن التحديات الاقتصادية والعسكرية، وهو ما بات يهدّد جدياً التماسك الاجتماعي لمنظومة القبائل المكونة لدولة الاحتلال.
تماسكٌ لا يحصل، بحسب عالم الاجتماع الفرنسي ومؤسس علم الاجتماع الحديث اليهودي الأصل «إيميل دوركايم» (1858-1917)، إلا من خلال التضامن الآلي القائم على الاعتماد المهني المتبادل في المجتمعات، مدفوعاً بالإيمان المشترك بتحقيق وتنفيذ الأهداف والمصالح الكبرى، وبالتالي يبدأ التفكك الاجتماعي بتخلي الجماعات عن التشارك في تحقيق الأهداف الكبرى ورفض التخندق سوياً في الدفاع عن مصالح الدولة والمجتمع ضدّ الأخطار التي تتهدّدها.
الحريديم : وداعاً لدبلوماسية الابتسامات
وأيّ مصلحة أكبر من التضامن المجتمعي العسكري في زمن القتال، وعن أي تماسك نتحدث اليوم في «إسرائيل» بعدما غادر الحريديم دبلوماسية الابتسامات، وانخرطوا علناً في ترسيخ ملامح التشظي المجتمعي على غير صعيد. فها هو حاخام السفارديم الأكبر «يتسحاق يوسف» قبل أسابيع وفي معرض رفضه المطلق للخدمة في الجيش، يهدّد العلمانيين ومن وارئهم وحدة الكيان: «إذا أُجبر المتديّنون على التجنيد فإنهم سيغادرون إسرائيل». قنبلة مشظية أخرى، ألقاها هذه المرة زعيم الفصيل الأورشليمي الراف تسافي فريدمان الذي يقود قطار المتشدّدين ضدّ التجنيد، حين أعلن صراحة وفقاً لـ «القناة 12» الإسرائيلية، أنه يفضل الموت بأيدي العرب على أن يتكاتف مع العلمانيين في صفوف الجيش: «فالعلمانيون بالنسبة لنا أخطر من الموت». وهل هناك ما هو أخطر من موت الأفراد سوى تفكك مجتمعاتهم؟
فوالق مجتمعية استشرف تحركها قبل تسع سنوات الرئيس السابق لـ «إسرائيل» رؤوفين ريفلين، حين دعا في معرض «إنقاذ إسرائيل» إلى إعطاء كلّ قبيلة نصيباً من النشاط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الإسرائيلي، لفتح جدران العزلة بين القبائل. ونبّه ريفلين، خلال افتتاح أعمال «مؤتمر هرتسيليا السنوي» لعام 2015، من تبعات التشظّي بين مكوّنات الدولة، وتأثيره السلبي على وجودها.
صحيحٌ أنّ بذور التفكك كانت موجودة في جسد الكيان منذ سنوات التأسيس الأولى بحكم طرائق استجلاب اليهود، إلا أنّ الصحيح أيضاً أنّ ما فرمل حدوث الهزات الداخلية مؤقتاً هو هيمنة القبيلة العلمانية مقابل المكوّنات الأخرى، الأمر الذي مكّن «إسرائيل» من استيعاب تداعيات الإرتجاج وأخطاره. وهذه الهيمنة بدأت بالتقهقر في ظلّ تعاظم التعداد السكاني لتلك المكوّنات الثلاثة وخصوصاً قبيلة الحريديم التي بنت عقدها الاجتماعي على امتلاكها الكامل لزمام أمورها بعيداً عن نطاق الدولة ككيان علماني. فالصهيونية في نظر الحريديم فكرة فاسدة تنتمي لعصر التنوير الأوروبي، وبعيدة كلّ البعد عن مفاهيم اليهودية كما يعتنقونها.
لذا يفضل «التوراتيون» اليوم التموضع على التلّ لقطف ثمار حروب الآخرين أو انتظار بوار مواسم العلمانية لوراثتها، حتى لو كان البديل الإبحار في سفينة بلا ربان في بحر ظلمات واحد يأخذها الموج إلى مجهول مستقبل هرباً من معلوم عنوانه: تحوّل «إسرائيل» إلى غيتوات متناحرة معادية لطموحات الدولة الواحدة تتسابق لإعلان أخبار الزلزال الإجتماعي الكبير.
*أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية وكاتب سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى