مقالات وآراء

في ظلال طوفان الأقصى سرور شهيد الغدر نصير غزة وشريان أهلها

‭}‬ د. مصطفى يوسف اللداوي
ربما لا يعرفه الكثير من شعبنا الفلسطيني في غزة، ولم يسمعوا باسمه من قبل، ولم يتعرّفوا على مهمته، ولم يحيطوا علماً بدوره، ولم يدركوا قدره، رغم أنّ الكثير منهم يشعرون بأثره، ويعتاشون على بعض جهده، وتصلهم حوالاتٌ ماليةٌ منه أو عبره، فقد نذر نفسه منذ سنواتٍ طويلةٍ لخدمة أهل غزة ومساعدة فقرائها، ومساندة المقاومة ونصرة شعبها، وانشغل بالبحث عن سبل دعمهم وأشكال مساندتهم، وتكبّد المشاق وتحمّل الكثير من الأعباء من أجلهم، وخسر أموالاً وفقد مدّخراتٍ، وتجشم الصعاب وعرض نفسه للأخطار، بينما كان يجوب الآفاق ويتصل مع مختلف الجهات المالية بحثاً عن مسالك آمنة، وعناوين مضمونة، يستطيع من خلالها أن يوصل الأمانات إلى أهلها، ويقدم المساعدات إلى مستحقيها.
كان الشهيد محمد إبراهيم سرور «أبو جعفر»، اللبناني البعيد عن غزة سكناً وإقامةً، والمقيم في بيروت المقاومة والصمود، والمتحدّر من بلدة اللبوة البقاعية الحدودية، يعرف أنّ مهمته خطرة، وصعبة وغير سهلة، وأنّ العدو الإسرائيلي الذي يتربّص بالمقاومة ويلاحق رجالها ويستهدف قادتها، لا يغيب عن عيونه المفتوحة وأجهزته الراصدة، كلّ الذين يدعمون المقاومة ويساندون رجالها، وينشغلون بها ويهتمّون بأمرها، ولا يغضّ الطرف عن الذين يساهمون في صمود أهلها وثبات حاضنتها، ويوصلون المال لأبنائها، ويتعهّدون فقراءها، ويتكفلون بضمان مستحقاتهم، وتعويضهم عنها في حال ضياعها أو انكشاف أمرها ومصادرتها.
أبو جعفر سرور ليس من غزة لكنه يعرف أهلها، ولم يسبق له أن زارها أو وطأ أرضها، وإنْ كان يحبّ ويتمنى، ويدعو الله عز وجل صادقاً أن يرزقه شرف زيارتها والتجوال فيها، ومشاركة أهلها الرباط ومقاومتها القتال، وقد كان يعرف أزقتها وحواريها، ويحفظ أسماء بلداتها ومخيماتها، ويعرف أيام العمل وساعات الراحة، وأوقات العطل وساعات الذروة والنشاط، وكان يعرف محالها التجارية الكبيرة، ومكاتب الصيرفة الشهيرة، ومتاجر الذهب وتجار العملة، وقد نال ثقتهم جميعاً بصدقه وأمانته، وطيبه وبساطته، فحفظوا كلمته وصانوا عهده، وهو الذي لم يخن الأمانة ولم يفرّط بحقٍ، ولم يتأخر عن نصرة محتاج ومساعدة من يستحق، فقيراً كان أو غنياً، محتاجاً أو ميسوراً، رجلاً أو امرأة، ممن يعرف أو يجهل.
إنه الحاج «هلال» الذي تعرفه مكاتب الصيرفة في غزة بهذا الاسم، وتحترم كلمته وتصون وعده، ولا تتأخر عن الوفاء بتعهّداته، وهو الذي طلب منها ألا تردّ من جاءها يحمل اسمه ويطلب أمانته، وقد آل على نفسه أن يسدّد عمّن عجز عن الوفاء، وتأخر عن السداد، وكان لا يبالي بكثرة عدد من يطرقون بابه ويسألون إحسانه، ولعلني أشهد أمام الله عز وجل أنه كان يرفض تماماً أن يربح من أهل غزة، وكان يحرّم على نفسه الاستفادة من أموالهم، أو اقتطاع أيّ جزءٍ منها عمولةً أو رسوم تحويل، وكان يتبرّع من حر ماله من حينٍ لآخر لمن يستحق من أهل غزة، ولا يردّ من سأله المساعدة أو طلب منه المساهمة.
اليوم يغيب عنا الحاج محمد إبراهيم سرور، ويلقى الله سبحانه وتعالى شهيداً، وهو الذي ما تأخر يوماً عن سؤاله الشهادة، وما تردّد في السعي إليها والفوز بها، وقد عرفته يحب رسول الله، وآل بيته الأطهار، ويزور مقاماتهم، ويتقرّب إلى الله عز وجل بأقدارهم، ويتكبّد المشاق ويتجشم الصعاب حجاً إلى بيت الله الحرام، أو زيارةً إلى مقامات آلِ بيت رسول الله.
يغيب عنا أبو جعفر الذي أصدرت في حقه الخزينة الأميركية عقوباتٍ اقتصادية، بذريعة دعمه للمقاومة، ومساندته لأهل غزة خاصةً والفلسطينيين عامةً، ولكن القرار الجائر الظالم، المنحاز الباطل، لم يفتّ في عضده ولم يضعفه، ولم يفتر عزيمته ولم يقلقه، بل مضى على ما عاهد عليه الله، واستمرّ في طريق ذات الشوكة، غير عابئ بما قد يصيبه أو يلحق به، فقد باع لله نفسه بالجنة، واستبدل الدنيا الفانية بالآخرة الباقية، وقد فاز والله بما طلب وتمنّى، واستحق الشهادة التي عنها ما فرّ ولا تولى.
لعلَّ الله عز وجل قد استجاب دعاءه ولبّى رجاءه، وقد علم أنه يقصده صادقاً ويدعوه مخلصاً، فاختاره شهيداً على طريق القدس ومن أجل فلسطين، واصطفاه دون غيره ليكون كأعلام المقاومين الذين نال منهم العدو الإسرائيلي غدراً وغيلةً، فلحق بركب الشهداء الكبار وكوكبة المقاتلين الأطهار، إذ استدرجته عميلةٌ «إسرائيلية»، تقمّصت دور حاجةٍ لبنانيةٍ إلى فيلا بعيدة في بيروت، بحجة استلام حوالةٍ ماليةٍ وصلتها من النجف العراقية، وفي المرة الثانية التي اطمأن فيها ووثق، كان في انتظاره عملاء إسرائيليون آخرون، نجحوا في الفرار ومغادرة لبنان بعد قليلٍ من تنفيذ جريمتهم، وكانوا قد تربّصوا به واستعدّوا له، وتجهّزوا للفرار كما للتنفيذ، ولعلهم حاولوا قبل قتله بسبع رصاصاتٍ اخترقت أماكن عدة من جسده، ومزقت أطرافه وهشمت عظامه، التحقيق معه واستنطاقه، وأخذ بعض المعلومات منه.
لكن الرجل الذي عُرف عنه العمل بصمت، والسعي بهدوء، والتنقل بين المناطق بنفسه على دراجته النارية، بتواضعه الجمّ، وأسماله البسيطة، وابتسامته المبشرة، صمد أمامهم، وقاوم جبروتهم، واستقوى بالله عز وجل عليهم، وهو الذي كان بينهم وحيداً وقد تكاثروا عليه وتجهّزوا له، وتحمّل شديد العذاب الذي ظهر على جسده، حتى لقيَ الله شهيداً، ولحق بالأنبياء والصدّيقين والشهداء، وما أظنه قد أعطاهم شيئاً مما منَّوا به أنفسهم، ولا مكنهم مما يريدون، فهذا رجلٌ قد صدق ما عاهد عليه الله، ووطن نفسه على خدمة الناس ونصرة المقاومة وانتظار الشهادة.
رحمة الله عليك أخي أبا جعفر، يا شهيد غزة وفلسطين، يا شهيد القدس والمجاهدين، يا مقاتلاً معنا وقبلنا في طوفان الأقصى، أسكنك الله الجنة وجعلك من أهل الفردوس الأعلى، مع رسول الله، ومع من تحب من خيرة الشهداء والصالحين، وسلام الله عليك في عليائك من غزة التي تحترق بنيران العدو، وهي التي لا تعرف عنك إلا بيض صنائعك وجميل عطاياك، فلك من كلّ بيتٍ فيها ومن كلّ أسرةٍ وعائلةٍ ساعدتها ووقفت معها وإلى جانبها سلاماً وتحية، وجعل ما قدّمت لهم ومن أجلهم في ميزان حسناتك يوم القيامة، يرفع الله عز وجل به قدرك ويُعلي مقامك ويَرضى عنك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى