مقالات وآراء

الفخ الاستراتيجي وخيارات «إسرائيل» الضيّقة

‭}‬ علي حمدالله
مقدمة
إنّ ضجيج التهديدات الإسرائيلية العالية للبنان ومقاومته لن يخفي أو يحيّد أو يقوّض العوامل الموضوعية الضاغطة والمحددة لسقوف وأشكال التصعيد الإسرائيلي ضدّ لبنان، وستجبر هذه العوامل المتشابكة والمتصاعدة تدريجياً العقلية السياسية الأيديولوجية العمياء التي تحكم «إسرائيل» على نزع نظّارتها الأيديولوجية وفتح عيونها على واقع التغيّرات العميقة في موازين القوى وتركيبة العلاقات الإقليمية والدولية، الواقع الذي ساهم الطوفان وجبهات الإسناد في رسمه منذ 7 تشرين الأوّل الماضي، أي انّ قوّة التغيّرات في الواقع الموضوعي ستجبر صانع القرار الإسرائيلي على الاستيقاظ من هلوسات نكران هذا الواقع بالذات.
وفي حين يغيب أيّ نقاش «إسرائيلي» حقيقي في الأشهر الأخيرة بخصوص التعاطي مع الأخطار الاستراتيجية غير المتاخمة جغرافياً لـ «إسرائيل»، مثل التحدّي اليمني والعراقي والإيراني وغيرها، تتركّز النقاشات حول ضرورة الاستجابة للخطر من لبنان على جبهة الشمال، ما يشير إلى تقلّص العقل الأمني والاستراتيجي الإسرائيلي إلى نطاق جيو-سياسي ضيّق ومحدود كنتيجة مباشرة لتآكل الإمكانيّات الجيو-سياسية الإسرائيلية وتقلص نطاق هيمنتها بالمعنى الواسع للكلمة.
بالإضافة إلى التلاصق الجغرافي مع لبنان فإنّ الأثر العميق والمباشر والاستراتيجي لتلك الجبهة يضعها على قائمة الأولويات الإسرائيلية، ويتمثّل ذلك الأثر في قدرة الجبهة اللبنانية إحداث تغيير ديموغرافي – جغرافي عبر نزوح عشرات آلاف المستوطنين من شمال فلسطين المحتلة إلى العمق ناهيك عن مستوى الإمكانيات والجاهزيّة بالمفهوم الواسع.
العوامل الرئيسية التي تحدّد سقوف وشكل الاستجابة «الإسرائيلية» للتحدي على الجبهة اللبنانية
ـ عزلة «إسرائيلية» متفاقمة على المستويات السياسية والدبلوماسية والأممية والجماهيرية.
ـ أزمة اقتصادية متفاقمة، ناهيك عن آثارها متوسطة وبعيدة المدى الكبيرة واللا-يقينية.
ـ جبهة داخلية متوترة وقلقة، بسبب تفكك مجلس الحرب (الإجماع الأساسي الذي مكّن «إسرائيل» من خوض حرب الإباداة الواسعة ضد غزّة) وتصاعد الأصوات التي تعارض توجهات الحكومة الحالية بقيادة نتنياهو وتطالب بإسقاط الحكومة، ومع تصاعد أشكال العنف في قمع الاحتجاجات الداخلية المطالبة بوقف الحرب أو عقد صفقة لاستعادة الأسرى الإسرائيليين.
ـ إنهاك الجيش وترهّله وانخفاض دافعيته وارتفاع في حجم خسائرة المادية واللوجستية والبشرية وانخفاض في معدلات وأعداد الالتحاق بالاحتياط ونموّ حالات التمرّد الداخلي ورفض التجنيد والتي قد تتخذ شكل اللجوء إلى ادّعاء المرض النفسي.
ـ موقف أميركي وأوروبي رسمي وعملياتي يدفع باتجاه عدم توسيع رقعة الحرب.
ـ غياب خطّة أو رؤية سياسية إسرائيلية حقيقية بخصوص فلسطين وغزّة تحديداً أو الجبهة اللبنانية.
ـ عامل اللايقين العالي بسبب فشل استخباري وأمني ومعلوماتي «إسرائيلي» في تقدير خطط أو إمكانيات المقاومة في لبنان أو في جبهات الإسناد، ناهيك عن عامل لايقين عالي بعدم القدرة على توقّع (إسقاط احتمال) نمو أو ظهور جبهات جديدة من جغرافيّات أخرى.
ـ صمود الشعب الفلسطيني وتماسك محور المقاومة وارتفاع مستوى التنسيق والتنفيذ بين جبهاته.
هذه العوامل تدركها وتقرّ بها جميع الأطراف؛ الإسرائيلية والأميركية والأوروبية وأطراف محور المقاومة، وهي عوامل واقعية (معطيات حقيقية) لا يمكن لأيّ طرف إغفالها أو نكرانها.
الفخ الاستراتيجي
تتضافر هذه العوامل لتحشر «إسرائيل» في الفخ الاستراتيجي التالي:
ـ عدم الاستجابة للتحدي على الجبهة اللبنانية يعني هزيمة استراتيجية أكيدة ويقينية لـ «إسرائيل».
ـ الاستجابة للتحدي على الجبهة اللبنانية سيعمل على مفاقمة العوامل الموصوفة أعلاه ما يعني إلحاق المزيد من الخسائر الاستراتيجية لـ «إسرائيل».
ـ عدم قدرة «إسرائيل» على تحقيق (نصر مطلق) على أيّ من الجبهات ناهيك عن تحقيق (نصر مطلق على جميعها) يعني حتماً ـ وهذا بتقدير الخبراء الإسرائيليين ـ هزيمة مطلقة لـ «إسرائيل».
وأمام هذا الفخ الاستراتيجي، انخفضت سقوف الأهداف «الإسرائيلية» بشكل علني صريح وملحوظ معبّراً عنه بالاستنتاج العلني والصريح بعدم القدرة على هزيمة حماس والمقاومة في غزّة، وهذا يعني يقيناً وبالاستنتاج المنطقي المباشر عدم القدرة على إلحاق هزيمة بالمقاومة اللبنانية.
ونرى أنّ السيناريو الوحيد المتاح لـ «إسرائيل» للخروج من هذا الفخ الاستراتيجي يتحدّد بالإطار التالي: النصر الإسرائيلي مستحيل، الخروج بأقلّ الأضرار، إلحاق أكبر أضرار بجهبات المقاومة.
والمعبّر عنه بالمقولة التيكتيكية التالية: الانسحاب التكتيكي من قطاع غزّة بحجّة الهجوم على لبنان، وتحديد سقوف الهجمات اللبنانية باستخدام ورقة الصفقة مع غزّة. بلغة أخرى، استخدام ورقة الهجوم على لبنان للانسحاب من غزّة، واستخدام ورقة الصفقة مع غزّة لردع الهجوم اللبناني.
وذلك عبر المراحل التالية:
ـ المرحلة الأولى: انحساب تكتيكي
*الانسحاب التكتيكي من قطاع غزة بحجّة الإعداد لهجوم على الجبهة اللبنانية، وبالتالي إخفاء هزيمة «إسرائيل» في القطاع مع محاولة إعلامية لإظهارها كنصر.
*الاستمرار في خطة تحويل غزة لجغرافيا غير قابلة للحياة البشرية نحو تهجير الفلسطينيين بضغط الظروف الموضوعي (التهجير القسري الموضوعي).
*بقاء فرق محدودة من الجيش الإسرائيلي في غزة، تحديداً في المفاصل الجيو-عسكرية في القطاع، مثل نتساريم وفيلادلفيا.
*إنضاج شروط وظروف الصفقة مع المقاومة في غزّة.
ـ المرحلة الثانية: ضربة خاطفة
*توجيه ضربة سريعة وعميقة وواسعة للبنان، باستخدام أسلحة دمار شامل، في عشيّة عقد الصفقة مع المقاومة الفلسطينية.
ـ المرحلة الثالثة: صمام الأمان الوحيد
*استخدام الصفقة مع المقاومة الفلسطينية في غزّة لخفض وتحديد سقف رد المقاومة اللبنانية، باعتبار أنّ استمرار العمليات اللبنانية يعني تحلل «إسرائيل» من الصفقة وبالتالي إمكانية عودتها لعمليات الإبادة. تنبع إمكانية هذا الربط، من تفويض جبهات الإسناد لحماس لتمثيلهم في المفاوضات والتصريح المعلن لجبهات الإسناد بأنّ شرطها لوقف العمليات مربوط بوقف العدوان على غزة.
يكمن التحدي الرئيسي من ناحية عملياتية أمام «إسرائيل» لتنفيذ هذا السيناريو في النجاح بضبط الجدول الزمني والتوقيت الدقيق في توجيه ضربة خاطفة للبنان قبيل توقيع صفقة مع المقاومة الفلسطينية. كما سيسقط هذا السيناريو بالكامل، في حال تغيّر خطاب جبهات الإسناد الذي يشرط استمرار عمليّاتها باستمرار العدوان على غزة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى