حركات الاحتجاج في لبنان… إن حكت
د. قصي الحسين*
في ستينيات القرن الماضي القريب قبل نصف قرن من اليوم، لعلع الرصاص في زغرتا – إهدن ولم يهدأ. حشدت العائلات أبناءها وقوداً للنار والبارود. كان فجر العام 1960 وبالاً عليها. ولعت بينها ولم تعد تنطفئ. ولولا الجيش، لأكلت الحرب الناس.
برزت «حركة الشباب الزغرتاوي»، كأول حركة احتجاج شبابية لبنانية، تطالب بإطفاء النار، التي تشعل أثواب البلدة، بزيّها القروي. حيث القبضاي، وحيث القبضايات، وحيث القبضنة، من نسيج العائلات الزغرتاوية جميعاً دون استثناء.
انخرطت العائلات جميعاً في «فعل القتل». كان قبضاياتها، يعمّدون حاراتها الريفية المتلاصقة بالدم.
متأثرة بوجع الأمهات الزغرتاويات اللواتي فقدن أزواجهن وأبناءهن، قتلاً وقنصاً واغتيالاً، انتدبت «حركة الشباب الزغرتاوي» نفسها، للمّ الجراح وتضميدها، ومداواة النفوس المكلومة والخواطر المنكسرة، من خلال الاتصال بزعماء العائلات أولاً، ومن خلال الاجتماع مع القيادات الرسمية: السياسية والعسكرية، في كلّ المواقع، لأجل حقن الدماء ووضع حدّ للاستهتار بأرواح الناس وأموالهم وممتلكاتهم، دون جدوى. ودامت الوقائع والحروب، في حارات هذه البلدة الجميلة الوادعة لأشهر طويلة، حتى استطاع الجيش ضبط الانفلات الأمني، وحتى استطاعت القيادات، حزم الأمر، وأخذ العائلات إلى المفاوضات والمصالحات وتحمّل الديات.
بوحي مما يجري اليوم في لبنان من حركة احتجاج، وثورة على الاستهتار، انصرف د. خليل الدويهي لتحرير مدوّناته التي كان قد احتفظ بها لنفسه ردحاً طويلاً من الزمن، عن تلك المرحلة القاسية من تاريخ «زغرتا – إهدن»، في كتاب، جعله تحت عنوان: حركة الشباب الزغرتاوي وستينيات زغرتا – إهدن (1960 -1969)، في طبعة خاصة صدرت له حديثاً، (360 صفحة تقريباً من القطع الوسط).
توقف المؤلف، بعد مقدمة مستفيضة، عن التجلي وعن التخلي، وعن التشرّد والجريمة واليتم، وعن الجرح المفتوح، وعن الوداع وعن هجرة الأمكنة الأليفة.
كما تحدث أيضاً عن دير قزحيا وحرش إهدن والمهرجانات والطريق المأنوسة إلى بيت الكهنة. وعن المدرسة والثانوية وكرة القدم وملاعب الطفولة والفتوة والشباب والرجولة. وعن صداقة الأفراد وصداقة إخوان الحركة وأخواتها. وعن الجيل الجامعي القلق الذي ينظر إلى المستقبل، فينفجر قهراً وغضباً.
أفرد الدويهي فصولاً طويلة، للحديث عن الشخص الزغرتاوي وعن الانتماء العائلي وعن الجيل الجامعي، وعن السلطة والتسلّط من تاريخ لبنان. وعن الثقافة العائليّة وثقافة الأمن. وعن الرقابة العائلية، وعن القلق، الذي أصاب جيلاً من الشباب بكامله، دفعهم للخروج والاحتجاج والثورة على العادات والتقاليد والأوثان والزعامات والقيادات «المسماة تاريخية».
يقول د. خليل الدويهي في توصيفه لـ «حركة الشباب»: هي في امتدادها، «قضيتنا لإسماع الصوت، الذي ضاق به صدر «العائليين». هي تلك الثروة التي يشترك فيها شباب البلدة، لتحقيق تلك الغاية النبيلة التي تسمح للمرء، باكتشاف ذاته، وجعل رحلة الحياة، لا إلى الموت، بل إلى السعادة بها. بالإضافة إلى الاندماج الداخلي الذي يدعو إلى الابتهاج بالانتماء. لأنّ جزءاً من الحقيقة الضالة التي نبحث عنها، إنما هي محفوظة في البلدة التي تسودها «العتمة»، وترزح تحت قدر من الانتظار الطويل الذي هو بلا أفق، مشفوع فقط، بتنهّدات الناس إلى السماء، ولا شيء أكثر من ذلك».
ثم يقول: «أنا مدين للحركة التي فجّرت السلام في دواخلنا منذ نصف قرن مضى، ودشنت اللقاءات الثقافية، بين ضفتي الساحة: الحارة الفوقا والحارة التحتا، متحدية بذلك، الهيمنة الثقيلة، الضاغطة، التي كانت تمارسها «العائلية الزغرتاوية»، لاستباحة البلدة، واستنزافها بحروب وصراعات» مجانية وغير مجدية.
تجربة «حركة الشباب الزغرتاوي» في الستينيات، هي حقاً المقدمة الأولى، لحركة الشباب في لبنان اليوم، الذي خلع ثياب العائلية والطوائفية والمناطقية والحزبية والعقائدية عن نفسه، وتوحد في الساحات، من أقصى لبنان إلى أقصاه، غير آبه بالاتهامات الضالة، التي يرمى بها، لأجل الاستمرار في قهره والتحكّم بمصيره، واستنزاف قدراته، وتضييع فرصه، والتضييق على أحلامه.
ما أحلى شباب لبنان، بقديمه وجديده. فهم في وحدة سواعدهم، ووحدة نفوسهم، ووحدة رؤاهم، أقوى حتماً، مما يكون، ومما كان…*أستاذ في الجامعة اللبنانية.