معرض فرنسيّ لـ «الفنّ الخام» وفنّانيه المعاصرين… عفويّة لا تنهض على فكر أو ثقافة

يقيم المتحف الباريسيّ «البيت الأحمر» معرضاً عن الفن الخام، وهو يحرص منذ افتتاحه على رعاية الحوار بين الفن الخام والفنانين المعاصرين، فبعد معرض تشكيلة أرنولف راينر 2005 ومعرض «صخب وعنف» لهنري دارغر 2006 و«الملهمين» لأوغستان لوساج وإلمار ترينكفالدر 2008 ، و«ارتجاج الحداثة» للويس سوتر 2012 ، نظم المتحف هذا المعرض الذي يضمّ أعمالاً لفنانين يضيق بهم التصنيف العاديّ.

ينسب مصطلح الفن الخام إلى الفرنسي جان دوبوفيه الذي صاغه للدلالة على أعمال فئة عصامية تجهل القيم الفنية التقليدية والمعايير الجمالية المتعارفة. ويعني بتلك التسمية فناً عفوياً لا يقوم على فكر أو ثقافة، فهو عادة إنتاج مرضى ومساجين ومهمشين لفظهم المجتمع. وأفاد في اشتغاله على هذا النوع الفني، ببحوث الدكتور الألماني هانس برينزهورن في عشرينات القرن الفائت حول فن المجانين، ومن الدراسة التي خصصها الدكتور الكندي هنري مورغنتالر لأدولف فولفي الذي كان نزيل أحد مصحات الأمراض العقلية وأضحى من أبرز ممثلي هذا الفن الذي بقي منذ ظهوره خارج التصنيف، أو ظل فناً مهملاً، لانطوائه على قوانين خاصة ينهل من ماضي الفرد ولاوعيه، ويلبي حاجة باطنية للتعبير عن إحساس بالقلق والضيق بالوجود، ليقدم إبداعات غريبة تأخذ المتفرج إلى عالم خيالي مدهش أشبه برؤى داخلية.

تلك الأعمال، التي ظلت أعواماً مخفية عن الأنظار، أو مثاراً للسخرية والاستهزاء بوصفها خربشات مرضى أو هذيان مجانين، لا يحق لغير الأطباء النفسانيين وبعض المولعين بنتاج اللاوعي الاطلاع عليها، وجدت من يهتم بها ويقتنيها ويؤلف منها تشكيلة خاصة، مثلما يؤلف الأثرياء تشكيلات لكبار الفنانين في العالم.

بين هؤلاء المولعين بالفن الخام الفرنسي برونو دوشارم، الذي جمع نحو خمسة آلاف عمل فني منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، على خطى ميشال تيفوز المسؤول عن مجموعة الفن الخام، التي كان دوبوفيه أهداها عام 1975 لمتحف لوزان السويسري. تميز دوشارم بتكوينه الفلسفي تتلمذ على فوكو ودولوز ولاكان ونهم الاطلاع لديه، فضلا عن اشتغاله على خط تماسّ الفنون عبر أشرطة وثائقية عديدة عمن يسميهم متطرفي الفن وعلاقتهم المباشرة بالمادة والشكل، وتعبيرهم الشبيه بخوف الأطفال أو صيحات المذعورين، ما جعله أقدر على فهم مسعاهم والإقبال على اقتناء أعمالهم رغم ما لقيه هو أيضاً من استهزاء في البداية. ولم يكتف دوشارم بجمع تلك الأعمال بل أسس عام 1999 شركة «أي بي سي دي»، وهي الأحرف الأولى لـ«فن خام، معرفة وتوزيع»، للتعريف بهذا الفن لدى الجمهور العريض، عبر المعارض والنشر وإنتاج الأفلام الوثائقية وإخراجه من الظلمات إلى النور.

يتوزع المعرض على اثني عشر فرعاً، بحسب الثيمات التي تناولها مبدعو الفن الخام، وهي في مجملها كونية مثل الموت والحياة والخير والشر، للدلالة على كونهم معاصرين هم أيضا كسائر الفنانين. وتضمّ التشكيلة المعروضة اتجاهات الفن الخام كافة، ذلك الذي رأى النور في مصحات الأمراض العقلية، أو شعّ في أذهان المهووسين بالمناظر الطبيعية، أو تبدى لوسطاء الأرواح، مثل الفرنسي فلوري جوزف كريبان، وهو سبّاك وسمكري، زعم عام 1939 أنه سمع أصواتاً تطلب إليه إعداد أربعمئة «لوحة عجيبة» لإنقاذ العالم من الحرب. أو الأميركي هنري دارغر البواب الليلي في أحد المستشفيات الكاثوليكية الذي أمضى لياليه يرسم مشاهد سادية مرعبة. أوالتشيكية أنّا زيمانكوفا التي عاشت طفولة أليمة بُترت خلالها رجلاها، فكانت تبث الورق أوجاعها كل صباح من الساعة الرابعة إلى السابعة، وترسم عالماً نباتياً غريباً مفعماً بالإروسية. أو النمسوي جوزيف هوفر الذي فقد السمع صغيراً وظل يصوغ في أشكال هندسية عجيبة أجساداً معذبة. أو الألماني هانس يورغ جورجي الذي صنع طائرات ورقية مبعثرة لإنقاذ البشرية، أو الأميركي جورج وايدنر الذي دوّن خلال أعوام ما سماه الشيفرة السرية لكوارث المستقبل.

في المعرض أعمال لأعلام باتوا اليوم معروفين مثل السويسري أدولف فولفلي والروسي ألكسندر لوبانوف والسويسرية ألويز كورباز والفرنسي أوغستان لوساج، وأخرى لفنانين أقل شهرة مثل فيكتوريان ساردو وجوديث سكوت وجان بيردريزيه. وهي في مجملها أعمال هشة، من مواد فقيرة كالورق والقماش والأسلاك، لا تحتمل الإضاءة الخافتة إذا فاقت أربعة أشهر، على ما يكشف أنطوان دو غالبير مؤسس «البيت الأحمر»، الذي يرى في هذا المعرض بداية اعتراف بالفن الخام في بلد لا تزال أشكال الفنون فيه مفصولة بعضها عن بعضها الآخر، على عكس ألمانيا والولايات المتحدة حيث تشهد أعمال هذه الفئة إقبالاً مطرداً، وتزايداً في قيمتها المالية.

تقول سافين فوبان، المسؤولة عن هذا الفرع في متحف لام بفيلنوف داسك، شمال فرنسا: «إن عرض الفن الخام في متحف الفن الحديث والمعاصر يدفع إلى التفكير عن موقعه في تاريخ الفن». وفي رأي فوبان أنّ ثمة علاقات بين محترفي هذا الفن ومبدعين كبار، مثل ماكس إرنست وبول كلي وأندريه ماسون وأندريه بروتون، والسورياليين وريمون كينو وبيكاسو، وحتى أنّيت ميساجي وجان تينغيلي. جميعهم افتتنوا بالكيفية التي يسائل بها الفن الخام فرادة الصور ومسار الخلق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى