البطريرك أفرام الثاني: هذا الحدث تحية وفاء للذين بذلوا حياتهم في سبيل الإيمان

دمشق ـ آمنة ملحم

عن الحبّ والسلام، عن الارتباط بالأرض والحياة الجميلة التي كان شعب السريان يعيشها رافضاً الموت قبل الإبادة الوحشية التي ألمّت به بين عامَي 1914 و1920 على يد العثمانيين. وإهداءً لأرواح شهداء التاريخ واليوم وأمس، قدّمت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية بقيادة الموسيقار أندريه معلولي، العمل السيمفونيّ «سيفو»، للمؤلف السرياني الشاب توماس يوسيل، الذي ألّفه خصيصاً لإحياء الذكرى المئوية لتلك المجازر، وعُزف في سورية للمرّة الأولى في العالم على مسرح دار الأوبرا في دمشق، برعاية البطريرك أغناطيوس أفرام الثاني بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، والرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم. وأحيت الحفل جوقة «مار افرام السرياني البطريركية» بقيادة شادي سروة.

وفاءً للشهداء… لا للثأر والحقد

«إن إحياء ذكرى مئوية إبادة السريان سيفو، ليست من أجل حقد أو ثأر أو ما يخالف تعاليم يسوع المسيح». هذا ما أكّده البطريرك أغناطيوس افرام الثاني في كلمة ألقاها خلال الحفل، لافتاً إلى أن الحفل يقام وفاء للذين بذلوا حياتهم في سبيل نشر الإيمان.

وتابع: إن هدفنا من الدعوة إلى الاعتراف بالإبادة، أن نمنع ـ إن استطعنا ـ حصول مثيلاتها، وإحقاق العدل، والعمل على وقف أشكال العنف كافة. فما دام الاعتراف غير رسمي، غير كامل، سيبقى للإبادة سبيل، لا سيما مع ثقافة العنف والإرهاب التي تسيطر على عالمنا اليوم. فالمجازر كلها التي ترتكب اليوم هي جرائم ضدّ الإنسانية، وعلامة انحدار الأخلاق إلى الحضيض. العنف هو إنكار لإنسانية الإنسان.

وقال: إن دماء شهدائنا في الماضي والحاضر تنمّي فينا روح الأمل بمستقبل أفضل، يعيش فيه الإنسان بكرامة في عالم يخلو من الإرهاب والعنف. وأثنى على العمل الموسيقي «سيفو»، لافتاً إلى أنه عمل ضخم يليق بأن يقدَّم في الذكرى المئوية لإبادة الشعب السرياني، وهو مقدّم للشهداء الذين كتبت أسماؤهم بأحرف من نار ونور. معبّراً عن فخره بمؤلف العمل الشاب توماس يوسيل.

وختم البطريرك كلمته مؤكداً إيمانه بأن سورية اليوم ستنتصر على الإرهاب والدمار، وستنطلق من جديد كما انطلق السريان من جديد وبنوا حياة جديدة. فالشعب سيقوم من جديد ليبني حياته ومستقبله، وهذا أمل يستمدّ من الإيمان بتضحية أبناء سورية وأفراد الجيش العربي السوري، وكلّ من يقاتل إلى جانبه لدحر الإرهاب. إنّ ما قدّمه الشهداء الأبرار، وتضحيات الجنود البواسل، لن تذهب سدى، بل ستعود بلادنا نقية طاهرة وتعطي مثالاً للعالم في الثبات وتبنّي المبادئ الصحيحة التي لا بدّ أن تنتصر. فالخير لا بدّ أن ينتصر.

السيف يتحوّل إلى رسالة حبّ

تضمّن الحفل أناشيد سريانية كنسية، تتحدّث عن الشهادة والشهداء. وموسيقى كلاسيكية بنفحات سريانية، ومن الأغاني التي أدّتها الجوقة والتي كُتبت خصّيصاً للحفل: «أطياف النقاء»، و«حروف من نور». ومما جاء في الأغنيتين:

ميّة سنة مرّو كأنن يوم

وبعدا الصوَر عم تحكي بقلبا صوَر

صورة شعب من أرضو لما هجرو

وصورة أمم عم تغدر بإيدا أمم

وصورة شهيد عجسمو بسيف انحفر

كلمة كفر وبعمرو اسمك ما نكر

بدوره، قال المؤلف الموسيقي يوسيل عن السبب الذي دفعه إلى كتابة هذا العمل السيمفوني: بعد مئة سنة من الأحداث، عُنيت بنشر تأليفي الموسيقي «سيفو» لأنه من أجل العدالة يجب أن نتذكر التاريخ في حاضرنا. واعترافات تركيا بإبادة عام 1915 أمر ضروري، وهي خطوة يجب أن نخطوها في اتجاه مستقبل أكثر سلاماً. فالتفاهم يقود إلى التواصل والتطوّر، ويجب أن نعمل به بدلاً من التحدّث عنه فقط. هذا ما أردت أن ألفت الانتباه إليه عبر سيمفونيتي، ويشرّفني أن أقدّمها للمرة الأولى في العالم من هنا، من سورية.

وعن تسمية العمل بـ«سيفو»، أشار يوسيل إلى أنّ «سيفو» باللغة الآرامية تعني السيف، ما يصف فظاعة الإبادة التي ارتُكبت بحق الشعب السرياني.

وعن السيمفونية يقول: سيمفونيتي تنقسم إلى ثلاث حركات. الأولى تعبّر عن جمال حياة السريان وجهلهم المصير القاسي الذي يتحضّر لهم، لتأتي الثانية وتصف الدمار والسريان المقتولين الملقاة جثثهم في الحقول، ودماؤهم تجري في الشوارع في بلداتهم، وأدخلت فيها صلاة «الابون دبشمايو» «الصلاة الربانية» ثلاث مرات في ثلاث قطع موسيقية مختلفة، ويشير الرقم ثلاثة إلى الثالوث الأقدس من خلال هذه الصلاة. لا يفقد السريان الأمل، إنما يقومون ولا يستسلمون. وفي الحركة الثالثة يلجأ بعضهم إلى أوروبا، وآخرون يبقون في الوطن.

ويتابع يوسيل: الموسيقى بطولية خصوصاً في نهاية السيمفونية، ويؤكد سيفو أنّه ليس طي التاريخ، بل إنه في الحاضر ويتكرر في سورية، لكن السريان قاموا واعتصموا وعملوا ضدّه عالمياً، سيسمع الجميع صوتهم وسيعلم الجميع أنهم لن يستسلموا أبداً حتى يعترف العالم بالإبادة.

للكنيسة كلمة

من ناحيته، لفت الأسقف موريس عمسيح، مدير دائرة العلاقات العامة في بطريركية السريان الأرثوذكس في حديث إلى «البناء»، إلى أنه، كما «سيفو» ترمز إلى السيف الذي مرّ على رؤوس السريان قبل مئة سنة، يعيد التاريخ نفسه اليوم في سورية والمنطقة كلّها، لأن الإرهاب يفرش جناحيه ويمتد، بدليل ما حصل في الضاحية الجنوبية في لبنان منذ أيام وكذلك في فرنسا. موجّهاً دعاءه بالرحمة لشهداء الضاحية، وأن تبتعد هذه الغيمة السوداء عن الشرق والبشرية جمعاء، وأن نعيش بسلام وأمان.

وتابع المطران: نحن في سورية لطالما شكّلنا فسيفساء جميلة من محمديين ومسيحيين، وعشنا معاً كعائلة واحدة. كلنا أهل وأحبّة تحت مظلة الوطن والقيادة والعلم السوري الواحد.

معلولي

وفي حديث إلى «البناء»، أشار المايسترو أندريه معلولي إلى أن العمل السيمفوني «سيفو» يحكي عن مجازر العثمانيين بحقّ السريان، فيذكر الناس ببعض الألحان السريانية وقولبتها ضمن القالب السيمفوني، الذي يعزف للمرة الأولى في العالم من سورية. ومن هنا تأتي أهميته العمل الذي كُتِب خصيصاً للمناسبة، ورمزية تقديمه من مسرح الأوبرا في دمشق إلى كل العالم. هي رسالة هامة تؤكد أن سورية كانت وستبقى منبراً للحقّ، ومنارة للإنسانية والحضارة، وهي لا تنسى أبناءها وتكرّم شهداءها. سورية ستبقى نابضة بالحياة، على رغم كلّ ما تعانيه من ألم.

وأكد معلولي أنّ هذا الحفل أساسه العمل السيمفوني، وتخلّلته قطع غنائية بمشاركة كورال جوقة مار أفرام السرياني بقيادة شادي سروة، تحكي عن تلك المجازر. يعدّ هذا الحفل حدثاً توثيقياً هاماً جداً لسورية، ورسالة هامة مفادها أن شعب سورية شعب محبة وسلام.

بدوره، قال شادي سروة لـ«البناء» إنّ الحفل حمل نفحات شرقية بالتأليف الموسيقي والأغاني التي أعدّت خصيصاً له، وحملت تصوّراً للحظات القاسية من تاريخ الشعب السرياني.

وعاد سروة ليؤكد أن رسالتهم من الحفل الذي أطلق من سورية، أن يعرف العالم أن سورية ـ على رغم الجراح والآلام ـ تبقى منبراً للثقافة والموسيقى والحضارة، وهي منبر للحقّ، ننادي منها بالاعتراف بتلك الإبادة من قبل الجهات التي قامت بتدبيرها أولاً.

تكريم

وفي ختام الحفل، كرّم البطريرك أفرام الثاني إدارة دار الأوبرا، وقدّم لها درعا تكريمية، موجّهاً شكره لوزارة الثقافة على تعاونها الكبير من أجل إنجاح هذا العمل، كما كرّم كلاً من: يوسيل، معلولي ممثلاً الفرقة السيمفونية الوطنية السورية ، وسروة ممثلاً جوقة مار أفرام السرياني .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى