مقالات وآراء

غوامض ومفاجآت الحالة اللبنانية…!

} صادق النابلسي

لنتفق في البداية أنّ لبنان تغيّرت أوضاعه لجهة السياسات التي كانت تحكمه، واستعداداته لتقبّل التسويات التي كانت تتفق وطبيعة نظامه السابق وتوازنات طوائفه. نحن في لحظة هشة ليس مطلوباً فيها الحلّ التامّ، ولا الفوضى الشاملة، وإنما الإنهاك والإضعاف.

من استدعى الأزمة وأجّجها يرى أنّ الشارع مطلوب، وشلّ المؤسّسات وتعطيل المصالح الحيوية مطلوبة كممرات ضرورية لتنفيذ استراتيجيات كبرى تبدّل من طبيعة البلد وهويته ومساراته.

منذ ما يناهز الستين يوماً والسؤال الأكثر إلحاحاً هو حول التسويات التي تحضر عادةً مع أيّ أزمة. يمكن أن يُقال: إنّ التسويات حقيقة تاريخية، عند استحالة الحرب كبديل معالج لمشكلة وجود العدو وقوّته، لكن كيف الوصول إليها، في ظلّ تناقض الأهداف ومحاولة القوى المحلية والخارجية بناءها على كثيب من الرمال المتحركة، وأمام سيولة الأحداث التي لا تجد من يتحكّم باتجاهاتها ونتائجها.

هذه المعضلة تستوي على مجرى التحوّلات السريعة منذ السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، في وقت لا تستطيع أميركا التي تملك التأثير الأبرز على الأزمة أن تحلّ مشكلة تراجعها التاريخي في المنطقة والعالم، ولا قوى محور المقاومة المناهضة لها قادرة أن تحسم الأمر لصالح صعودها التاريخي. حتى اللحظة موازين القوى متساوية لدى الفاعلين والأخصام والأعداء، وكلها تتذوّق الخطر وتبني تدابير ذكية لنفسها لتتجاوز الأسوأ في المواجهات.

من جهة ثانية، هل فكرة أنّمعظم الصراعات في العالم ليس لها حلول نهائية وحلول سياسية حاسمةتنطبق على الحالة اللبنانية، أم أنّ طبيعة لبنان تختلف عن طبيعة بلدان أخرى وأنّ إمكانية الحلّ متاحة باستمرار نظراً لعظيم المصالح الغربية في هذا البلد التي تجعلها في نهاية المطاف تقبل التراجع والإستدارة حرصاً على ما هوز موجود وخوفاً على ما هو خافٍ! خصوصاً والمنطقة محفوفة باحتمالات قد تنجم عنها أخطار صراعات أعمق لا سيما في العراق الذي يرزح تحت ضغوط وظروف مشابهة أو الولوج في (الحرب المستبعدة) بين محور المقاومة والكيان الصهيوني عند أيّ حدث مفاجئ.

ولأنّ الأزمة ساخنة، فالأمر لا يرتبط بقوى محلية فحسب. هناك عودة بشكل أو بآخر إلى صراع الدولتين العظميين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. لبنان كان وما زال ميداناً لصراع قوى خارجية إقليمية ودولية. وأميركا ستعتبر أنّ دخول الروسي إلى مناطق نفوذها دخولاً غير مشروع له مضاعفاته وعواقبه الوخيمة. وهذا ما أشار إليه صراحة السفير الأميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان عندما اعتبرأنّ لبنان مكان للمنافسة الاستراتيجية العالمية، وإذا تنازلنا عن الأرض سيملأ الآخرون الفراغ بسعادة، ويقصد بذلك روسيا والصين على وجه الخصوص. لبنان اليوم وبسبب الثروات الغازية يقع ضمن خطوط المنافسة والسباق وطلب النفوذ الاقتصادي والسياسي، من هنا فالمشهد مركب، تتداخل فيه العوامل المحلية مع الحسابات والمشاريع الخارجية. وبناء عليه يجب النظر إليه من زوايا عديدة:

ـ من زاوية الصراع مع إيران ومفاصل محور المقاومة.

ـ من زاوية صفقة القرن وتوطين الفلسطينيين.

ـ من زاوية اللاجئين السوريين وربط قضيتهم بمسار الحلّ في سورية.

ـ من زاوية المصالح الأميركية ونفوذها الاستراتيجي وأطماعها بالثروات اللبنانية الغازية.

ـ من زاوية المصالح الأوروبية وتحديداً الفرنسية.

ـ من زاوية الحالة الصراعية بين لبنان والكيان الإسرائيلي حول وجود المقاومة من جانب، وبعد ذلك حول ترسيم الحدود البحرية والبرية.

ـ من زاوية موازين الصراعات الداخلية ومعادلاتها.

ومن الواضح أنّ المعركة السياسة القائمة في هذا الوقت تدور حول تشكيل الحكومة تكليفاً وتأليفاً وهوية وبكلّ ما يتصل بتحرير الرئيس سعد الحريري من التفاوض على شروط تشكيل حكومته ضمن عنوان رئيسي (إنهاء نفوذ إيران) على ما صرّح به وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو.

المعركة تخاض إذن على حافة الهاوية، في حين أنّ الوضع الاقتصادي والنقدي يشكل شبكة تحاصر جميع الفاعلين المحليين.

ما نتصوّره في القريب القادم هو التالي:

1 ـ فشل جهود تشكيل حكومة جديدة بالصيغ المطروحة تكنوقراط أو تكنوسياسية.

2 ـ استغلال الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة لنشر الفوضى وتعميق الأزمة بما يصعّد الضغط على المقاومة وحلفائها إلى الحدود القصوى.

3 ـ زيادة الشلل في مؤسسات الدولة تعظيماً لحالة الضغط على كلّ القطاعات اللبنانية.

أما بالنسبة إلى ما يطرحه حلفاء المقاومة من ضرورة المسارعة إلى تأليف حكومة مواجهة خصوصاً أنهم يملكون الأغلبية البرلمانية، فلا نعتقد أنّ لها حظاً قبل الفوضى وانهيار الدولة وعجزها عن القيام بوظائفها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية نظراً لمحاذيرها وسلبياتها وتحديداً لجهة استدعائها ردود فعل عنفية داخلية وخارجية. لكن هذا الخيار سيكون محكوماً بطبيعة التطورات القادمة ومدى ملامستها للخطوط الحمراء للمقاومة.

ما يمكن توقعه من إجراءات تقوم بها المقاومة خصوصاً أنها مكون غير دولتي ولا تملك البدائل التي تملكها الدول عادة:

1 ـ الصبر ومراقبة الأحداث وعدم استعجال الخيارات المواجِهة لأخصام الداخل وأعداء الخارج.

2 ـ تحصين بيئة المقاومة اجتماعياً بما يحفظ مصالح المقاومة وحضورها الداخلي والاستراتيجي.

3 ـ مواصلة الضغط على الخصوم وإفشال مخططاتهم في الشارع وفي السياسة.

4 ـ تحضير البدائل الاقتصادية مع دول (روسياإيرانالصين) فيما لو اتجهت الأمور نحو المزيد من العقد أمام تشكيل الحكومة.

5 ـ تعديل متدرّج للأزمة بما يمنع الانفجار الداخلي ويعيد التوازن إلى اللعبة الداخلية سواء عبر الإقناع أو الحسم إذا تطلب الأمر.

إنّ لبنان منذ العام 2010 يقف على تلك الحافة المخيفة بين استحقاق الحلّ وقابلية الانفجار الكبير.

لا أحد يمكنه أن يتنبّأ بسذاجة روحانية، أو بذكاء عقلاني حادّ، بما يمكن أن يحصل.

المنطقة كلها لا تسير على نسق مرتّب مقدّر أو نظام يوجّهه ضمير الفاعلين أو حتى جنونهم.

كلّ المحللين يواجهون أوضاعاً تنهار أمامها أصول الملاحظة المحكمة، ما يجري يتجاوز إمكانية الضبط والتصوير الواضح. بالتأكيدهوليس سحراً ولكنه مشبع بالغوامض والتناقضات والمفاجآت التي لا أشكّ أنها ستغيّر كثيراً في فكرة المعرفة وحركة التاريخ ومعطيات الإيمان أيضاً…!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى