ثقافة وفنون

الأدب الوجيز وكتابة الاختلاف

} د. باسل بديع الزين*

إذا شئتُ أن ألتمس تضادًا واقعيًا بين كلمتين لا تتعارضان لغويًا لاخترت الاختلاف والإلغاء، ذلك أنّ الاختلاف تكريس في حين أنّ الإلغاء محو. وفي هذا السياق، يأتي الأدب الوجيز ليطرح مشروعه الفكريّ بوصفه نمطًا تعبيريًا جديدًا بالتمام ونوعًا أدبيًا مختلفًا له مرتكزاته وأسسه الفكريّة وطموحاته المشروعة وأبعاده المنشودة.

بهذا المعنى، يُمكن أن نربط بوضوح بين ماهيّة الكتابة الوجيزة ونزعتها إلى تكريس الاختلاف على مستويات ثلاثة:

أوّلًا: السّعي إلى خلق مساحة إبداعيّة جديدة تستفيد من المنجز الأدبيّ العربيّ والغربيّ في آن معًا وذلك بالقدر نفسه الذي تطرح فيه مفاهيمها وتصوّراتها الطريفة والمبتكرة. بتعبير آخر، يسعى الأدب الوجيز إلى ولوج المناطق الكتابيّة العصيّة على القول أي تلك الروافد التي تتفلت باستمرار من قبضة التعبير. ولهذه الغاية راح يسائل اللغة نفسها عن فضاءاتها المسكوت عنها لا سيّما لجهة الفتق والرّتق، وهما تعبيران إن دلّا على أمر فإنّما يدلان على استراتيجية رتق نزيف المعنى وما ينجم عنه من فتق إمكانات التعبير. وعليه، يأتي التكثيف في الومضة أو القصة الوجيزة ليُشرّع آفاق القول وليس ليوجزه. فالوجز هنا لا يعني الاقتضاب بقدر ما يعني فتح نافذة المتخيّل على تأويلات لا حدّ لها ولا حصر. الإيجاز نقيض الاختصار، الإيجاز إمعان في التفكّر ورصد عنيف لآليات تعبيرية جديدة لا ينتهي مقامها برفد مجرى الرموز أو الوقوف على جوهر المعاناة وتلمّس سبل الدهشة والتعمّق في مباني المفارقة. الوجز ارتحال داخل فضاءات لامتناهية من القول بفعل رد الانفلاش اللامرئي إلى صلابة تكوينه الأوّل وارتحاله الأصيل وتفجّره العتيد وانبثاقه المحتجب.

ثانيًا: الاختلاف أدبيًا يعني الحق في تأصيل نوع أدبي جديد له مداميكه المفهومية ونصوصه الإبداعية وتصوراته النقدية. وغنيّ عن الذكر أنّ منظري الأدب لم ينطلقوا في طروحاتهم من غيٍّ فكري أو اعتباط تنظيري بل انطلقوا من تراث كبير تعود جذوره إلى العصر السومري، حيث جرى رصد المحاولات الأولى للكتابة الوجيزة والتي لم تعدُ كونها شذرات تلمّس مبدعوها حبل نجاة مُبكر، لكنّهم عزفوا عنها أو أبقوا عليها محاولات متفردة ترد في سياقات فرعية، لكنها لم تجنح يومًا نحو التأصيل حتى في العصور التالية التي نمت فيها وازدهرت. وعليه، يرى الأدب الوجيز أنّ الأوان قد آن لاعتبارات اجتماعية وأدبية وإنسانية وتقنية وعلمية لكي يُمنح هذا النمط التعبيري حقّه في التفرد والتأصيل. لهذه الغاية، كان العمل الدؤوب لسنين طوال من أجل منح هذا النمط التعبيري شكلًا مستقلًا وتزويده بالآليات المفهومية الضرورية قد ينمو ويتطوّر ويحقق غايته المنشودة في تكريس نفسه نوعًا أدبيًا جديدًا.

ثالثًا: التأصيل النوعيّ يعني قبل كل شيء اعترافًا لا مناص منه بالأشكال الأدبية والأنماط التعبيرية السائدة، كما يعني اعترافًا صريحًا بحقه في الاختلاف انطلاقًا من المنظومة الفكرية الجديدة التي يطرحها. بهذا المعنى، يغدو جميع النقاد مدعوين وبعمق إلى تتبع مسار تنامي هذه الحركة الأدبية وتناولها بالنقد والتصويب والنظر إليها نظرة فاحصة انطلاقًا من مقارباتها التنظيرية ومؤتمراتها التأسيسية ونتاجاتها الأدبية.

باختصار، نحن نرى في الأدب الوجيز رافعة لمستقبل أدبيّ ناهض وتأصيلًا لنوع أدبي جديد. ولهذه الغاية ما فتئنا نبذل جهودًا مضنية قراءة وكتابة وخلوات تفكرية وحوارات معمّقة بغية التأسيس لحركة جدية تدّعي اختلافًا مصقولًا وتنويعًا منشودًا وتنفتح على جميع الآراء وتبقي مجال التعديل قائمًا، فجلّ ما تطلبه هذه المدرسة الجديدة، إن صح القول، هو النظر بعين العدل والإنصاف إلى جهود جبارة تصرف في المشرق العربي والمغرب العربي من أجل تكريس مفاعيل حركة تجديدية أصيلة عميقة ضاقت ذرعًا بالشعرية الزائفة وبعملية التسطيح الذي تستهدف العقول وتحدّ من قدرة التخيل وتحيل الأدب ضربًا من اللغو والعبث والخطابة والمنبرية.

في هذا السياق، يُعِدّ الأدب الوجيز عدّته لإطلاق كتيّب نقدي يتضمّن طرحًا نظريًا محكمًا ذا منهجية دقيقة وتطلعات راسخة وآمال صلبة، كتيّب فيه من الغنى المفهومي والبعد الرؤيوي ما يُمكّن أي باحث من التوغل داخل منظومة محكمة البناء والوقوف على طروحات فكرية ندّعي أنها تملك من العمق ما يخوّلها أن تُحدث هزة عنيفة في المفاهيم السائدة والمتوارثة.

*عضو ملتقى الأدب الوجيز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى