ثقافة وفنون

باقات 2

 

} مصطفى بدويّ*

في شتاءات النصّ..

قبل هنيهات قليلة من حلول العام الجديد، وأنا أقلّب مكتبتي الروائية استوقفتني رواية «شرق المتوسط» التي لم ألامس صمتها منذ ما يربو على ثلاث وثلاثين سنة. ولسبب داخلي غامض، ألفيتنيوأنا أتصفحهاأستعيد تاريخاً شخصياً متماوجاً يتراقص في حقول الذاكرة ويستبدّ بوثوقية الروح.

لم تكن الرواية في حدّ ذاتها تعنيني وأنا أسافر في وديانها وأنصت لفحيح وهادها بل كنت في العمق معنياً بتقليب ألبوم شخصي توارت شخوصه وانتهت صبواته وتداعت مزهريات أحلامه. كانت تطلّ عليّ وجوه بعيدة وأنا أداعب بعينيّ المجهدتين صفحات الرواية بعضها تمطى في دهاليز النسيان وبعضها ما زالت صورته تلتمع بين الحين والآخر في خرائب الذاكرة.

لست محتاجاً لأن تذكرني نظريات التلقي بأوهامها الاستعارية حول هذا الفعل الرمزيّ المتعدد الأوجه والأبعاد الذي يتسرّب إلى تجاويف الروح كما الجسد بقدر ما تعنيني سيول الفقد والتشظي والخسران، وأنا أمعن التأمّل في هذا الفعل الزلزالي الجديد.

أكيد أني لم أكن محتاجاً لاستعادة تفاصيل الرواية بل كنت في أمسّ الحاجة ربما إلى استعادة مرايا الزمن بتشققاته ونضارته المفترضة واوهامه المتعددة. لقد كنت أستعيد تلك الروائح والوجوه والأزمنة والسياقات وأنا أجابه شتاءات شتى تتهاطل على ربوع الروح.

وفي هذا الاتجاه، أؤكد ههنا على الطوفان الجميل الذي تلفحك به بعذوبة وقسوة في آن واحد تلك القراءات المتباعدة زمنياً لنفسى النصّ. ليس النصّ هو الذي «يتجدّد» بل مآلات القارئ هي التي «تتبدد»، فبوصلة القارئ تهتز مع الزمن ومصائر خياراته هي التي قد توحي إليه بأنه أمام نصّ أو جسر يحاول أن يستعيد عبره ذلك النهر من تاريخه الشخصي الذي لا يمكن له أن يستحمّ فيه مرتين!!

ففي كل سطر كانت تتداعى إليّ وجوه وأحلام، صور وأوهام، مصائر ومجازات تفصلني عنها الآن عقود كثيرة. لم يكن النصّ المذكور ليعنيني إلا بالقدر الذي كان يثيره فيّ من أسئلة جارحة جعلتني أعبر الأمداء عبر نافذته للإنصات الى تحوّلات الذات عبر (أقاليم الليل والنهار) وما تدثرت به من ملاءات النسيان؛ لأقول:

هناالآن أو شرق الذاكرة أو غربهاسيان!

***

هَبْ أنك:

هَبْ أنك الآن في أوسلو في مقهى تندلق في أرجائه موسيقى شوبان والعيون الزرق تكنس حضورك الأفريقي بالتماعات باسمة لا حقد فيها ورائحة القهوة تعطر المكان..

هَبْ أنك تكتب قصيدة تندب فيها حظك الجغرافي التعيس فيما فراشات الحب تتقافز حول عشاق المكان ووحدك تهذي معتمراً حنينك لطفولة ضيّعها حظك الملعون يوم عرفت أنك أفريقي على طاولة مدرستك الابتدائية.

هَبْ أنك في الهايد بارك تنصت للمطاردين وهم يشتمون الطاحونة المستبدّة المتوحشة، تلك التي شرّدتهم على شتى صنوف الأرصفة والأقبية

هَبْ أنك تحلم أنك ما ولدت هنا لتكون مثل هؤلاء الذين ما عرفوا القهر ولا البهدلة..

هَبْ أنك كبرت هناك لتختزل كل الرحلة القاسية !

***

مفارقات

كلّما كثر الشعراء جفّ ضرع القصيدة..

كلما أجهش طفل تهاوى نفاق العالم

كلما انهار حلم تربّع تافه على عرش الجثث..

كلما جاع عامل ارتقى لص الى مصاف الآلهة

كلما تعددت المنصات تبخّرت الحكمة

كلما تغضّن جفن نام ظالم

كلما اغتنى غبيّ ضاع شعب

كلما كثرت المآذن قلّ الأتقياء

كلما تأملت العالم قهقه العدم!!

***

يا لانخطاف الناي

لا أدري لماذا كلما مسّ شغاف المزهرية الباطنية حفيف متسلّل من دبيب الناي تتقافز فراشات اللغة الى ميازيب مخيلتي كي تتعرى ملء الهواء حشود الابجدية.. فتضيع بوصلة الزمام أمامي وأحتاج لترجمان الصمت لألوذ بدهشتي في غيبوبة طفولية طارئة..

أتمطى في مصاطب الانخطاف الشذيّ.. أتهجّى بالكاد ما يشبه الهمهمات.. أتنزه في ملكوت الدبيب المريع.. وأستضيف تقاطع الأزمنة على مائدة الشرود المدمّى بالحنين إلى رياحين تشققت فجأة في مهب الخيال.. ألملم ما استطعت من الرؤى في خطوة تتشظّى أو أهدهد ما تبقى من لوعة نازفة.. والناي يصدح بي: «تعال إلى خيمتي».

ثم أصحو على جثتي لغة يطيّرها برد الذاكرة!

***

سأحتفي اليوم بالفراغ،

أهدهده ذات الضياع وذات الخيال،

وأسكبه قطرة.. قطرة في كؤوس الطلا لأرجمه بنبال العزاء..

أغلفه بمراثي الأمل وأشيعه بمراسيم العزلة الطافحة..

أعلّمه كيف للشعر أن يرتق عريَ الطبيعة، ويغزل من دمعة الخسران باباً لليتامى في حضرة اليأس المدمّى..

سأحتفي اليوم بالفراغ وبي

وتلك سجيتي في لوعة النسيان!

 

*أستاذ جامعي وشاعر وناقد مغربي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى