ثقافة وفنون

حين يبلغ الصمت الكلام..خريف يُشتّي الغيابات

} نعيم تلحوق*

 منذ سنوات قليلة هرب مني أصدقاء كثيرون، منهم مَن تعثّر بحركة الموت، ومنهم مَن تهرّب من حركة الحياة، ومنهم مَن غادر يستظلُّ حركة الوجود بحثاً عن روحه، والبعض رحل يرتجي معناه. كل عام أفقد أحداً أكبر من الموت وأبهى من الحرية

 بعضُ هؤلاء الأصدقاء اختار الرحيل بصمت، رغم أنهم كانوا أكثر من ضوء، وأبعد من حلم، اختاروا نزفاً صامتاً لا يحدّه حدّ، ولا تجرحه ورقة توتالغياب بصمت هو أجمل الغيابات، يجعلني أحيا لحظة الحركة كما لو أنهم يعيشون ضمن دائرة الظنّ، أنّهم لمّا غابوا بعد

هؤلاء هم، أنطوان غريب، نسيب الشامي، جبران عريجي، محمود غزالي، شوقي الرياشي، علي حجيج، صحافيّون ومفكّرون، كانوا في حركة الحياة، حركة النهضة، حركة الفكر، حركة الإرادة، حركة الكلمة الحرة، المسؤولة والملتزمة في آن.. لم أتمكّن من مجاراة رحيلهم فكنت أخشعُ بصمت، دون أن أقول كلمتي فيهم، ولأن أحداً منهم لم يستطع أن يمنع إشارة المعنى من المرور، فذهبوا الى صمتهم كي يستنبطوا المعنى من قلب الغياب

أنا لا أدرس وظيفة المعنى من غيابهم، بل من حضورهم:

أنطوان غريّب، صاحب الكلمة الفريدة المرسومة بالبسمة

نسيب الشامي، صاحب الإرادة الفولاذية المغمورة بالعناق

جبران عريجي، صاحب التحديات الاستثنائيّة والثقافة العالية

محمود غزالي، صاحب اللمعة الساحرة والمثل العليا

شوقي الرياشي، صاحب الفكاهة الصادمة والفكرة العنيدة

علي حجيج، صاحب البسمة الدائمة والقلب الطّهور،

 جميعهم أصحاب المعنى، وآخرون أسماؤهم حرَّى في داخلي، أشتاهم الخريف غيابات، فتضلّعت صدورنا، وحاكها سرير بارد يتقن لعبة الظلام

  عرفت أنطوان غريب، النظيف الكفّ، المؤمن بالكلمة السلسة الموزونة، منذ العام 1980 في جريدة «الشرق»، الى اللحظة الآسرة في مجلة «فكر»… لم يصغِ إلا لصوت ضميره وحسّه الوطنيّفكان أن رحل بلا بيت

  نسيب الشامي الراقص في أحضان الصراع الفكري في الأدب، كتب كلمته الصارمة في الغربة، وعاد ليبني بيته بكلمة حيّة مؤمنة بصحة العقيدة، في قلبه غصّة الفكر، مدركاً أن الكلمة في محنة كبيرة، رحل وترك زوجة صابرة لثلاثة أولاد يتابعون المسيرة

جبران عريجي، الذي امتشق حريته صراعاً، فجاءت كلمته مقنعة ولو كانت بغير قناعة الآخرين، فكان ديكتاتوراً جميلاً لكلمة نبيلة تؤمن بحق الصراع وحق التقدّمرحل دون سؤال الأحبّة عن جواب ليقينه

محمود غزالي، صاحب المانشيت الأبهى، استمرّ وجدانه القومي وكلمته القابضة على الجرح صورة حيّة تلازم كل الشرفاء والأحرار بدءاً من «النهار» و»صباح الخير» الى «البناء» حتى قال لي يوماً: تذّكر يا نعيم سيصبح لبنان كلّه شارع مونو، «المتنبي» سابقاًرحل وفي حافظة أقلامه حبر لم يصل الى الورق

شوقي الرياشي، بقي مصرّاً على موقفه في الصحافة والفكر على حلم تركيا القديم، وبأن الحياة لا تصنع أحياءً، كنا نشترك في صرف هارموناتنا الفلسفية على النزوع الشبقيّ عند الطبقة العاملة، وفصلنا في المفاهيم بين العامل والكادح للوصول الى البرجوازيّة الصغيرة، رحل دون أن يبني بيتاً لصراعه

علي حجيج، الرجل المكافح الصبور، الذي غرس روحه في الصحافة برقّة قلَّ نظيرها، حمل «شعلة» الكلمة بنبض الشاعر، واستلهم إحساسه من جمهوريّة أفلاطون السحرية، فلم يكن له لدود في مهنة المتاعب، كان يصبر على المأساة، حتى جعلني أدرك أن أهم علامة من علامات الذكاء الصبررحل عليّ في بلدته الجنوبية «بريقع» بهدوء صمته على الوجع والألم والانكسار وهو لم يزل قادراً على الابتسام

  جميعهم غابوا، أوقعهم «العضال» في براثنه، وبقيت أجسادهم ملحاً يعارك التراب، وأرواحهم ماءً تصارع الريح، فأشتوا علينا في خريف الحياة، معمودية الغضب، وصرتُ بِحَيرة نفسي، على ماذا يفعل المعنى حين يشتاقهم، ويصير القلب صنَّارة عشق يخشى السقوط في فخ الزمن أو النزوع الى الغياب

 مِن هؤلاء تعلّمت دروساً كثيرة، أفضت الى معانٍ ترسم صورة الغرض من وجودنا، وعرفت كيف على الواحد مناّ أن يُحبّ ويكون لديه قضية تساوي وجوده في العالم، وفهمتُ لماذا لا يستطيع واحدنا إنكار حياته من أجل موته، ولماذا علينا أن ندرك حقيقة أننا استثنائيّون بلا رفَّة جفن

 وانا ماذا أفعل بهذا «العضال» النائم بخفة بين الحنايا، ينتقل خلسة ليسألني ماذا ستفعل في رحلة العمرأيّها الاستثنائي العربيد؟؟

 قد أغيّر الجواب وأمضيباحثاً عن هؤلاءدون أن ألتقيهم، فأنا راكض نحو المعنى دون أن أصل إليه، كما فعل أصدقائي ورفقائي في الردهة المعتمةولن أرضى غريماً لي أقلّ من الزمن، لن أتمكن من إيقاف هذا السفّاح العنيد، لكني سأغرس في جوفه بصمة الإبداع

 قد أتعثّر في الخطوات دون رسم ملامحها، لكني سأمضي من جديد دون أن أصل إليهم

*شاعر وإعلامي لبناني وناشر دار فواصل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى