أخيرة

هنري حاماتي… قامة في مجد النهضة

 نظام مارديني

ها هو عامٌ يمرّ وأنا أجتهد لأعيد تركيب جمل واكتشاف مفردات قوميّة جديدة، لعلها تفكُ أو تميط اللثام عن جوانب من تاريخ الأمين الراحل هنري حاماتي، تاريخه الحزبي وما فيه من حيوات. فللأمين هنري، إضاءة من توهُّج أيام كانت تتسلل إلى أعماق جيلٍ زاخر بالعنفوان، والأمل، وطاقة العطاء، والصبر على المكاره والنوائب والتعسّف..

ولكن أية كلمة أو جملة أو موقف من هذا التاريخ سأختارُ للحديث عنه، برغم توحّدها أو توحّده في الرؤية، في إطار الفعل الثقافي الريادي الذي كان يضطلع به خلال فترة الستينيّات والسبعينيّات من القرن العشرين، وكان من بواكير إنتاجه السياسي/ الثقافي، «كيف نتّجه» و»جماهير وكوارث»، ومسرحية مجدولين (مُنعت من العرض في المسرح، فمسرحها الثنائيّ، نضال الأشقر وروجيه عساف في شارع الحمرا، أمام مقهى «الهورس شو» مما سبّب مواجهات مع قوات الأمن الداخلي وتمّ اعتقال حاماتي إلا أنّ الضابط سرعان ما أطلق سراحه عندما عرف أنه إبن موسى حاماتي الذي تتلمذ الضابط على يديه)!؟

لم يكن مدّعياً الأمين هنري، رغم تعدّد ميادين إبداعه، شعراً ونثراً ومسرحاً، وشغفاً بالرياضيات وانشداداً للحوارات التي لا يجامل بها أبداً على حساب الحقيقة..

كان الحزبُ في تلك المرحلة يزدهر ويزهو بمثقفيه.. مسرحاً ومجلة شعر.. وشعراء كبار، كأدونيس ومحمد الماغوط ونذير العظمة وسنية صالح وفايز خضور والشهيد كمال خير بك (الأخير عندما اغتيل قالت إذاعة العدو الصهيوني: قُتل الإرهابيّ الأول كمال خير بك)، ورهط لا عدّ له من المبدعين، كتاباً وفنانين وقادة رأي. فانطلقت الحداثة الشعريّة، واغتنت الحركة التشكيليّة بقيم لونيّة وخطوط تجديديّة.

أدرك أنا، كما الرفقاء، أنّ الزمن بناءٌ ماهر يُخفي الأسرار وهو يصقل القامات، كقامتكَ يا أمين هنري، ويرمّمها من كلّ تغييب لتتحوّل إلى قوة دفع وإعادة خلق لأجيال لم تولد بعد، بل وكنت محفزاً للنهوض لكافة القوميين، وقد جسّدت استشرافاتهم للنضال والحياة المدنية الأفضل

لم يرَ جيلنا الذي واكب كبار هذه النهضة العظيمة، غير مشهد النضال وهو يكتمل بالكلّ، أو التفرّد الخلاق وهو يتحرّك من واحد إلى آخر. كانت أيام جيلنا تجيز للإنسان الأمل والحلم القومي بالعدالة الاجتماعية لكلّ المواطنين، وتخلق القيم النبيلة بلغة القوة، والمواجهة بالكلمة والإيماءات والعيون.. نعم العيون التي واجهت مخارز استخبارات المكتب الثاني وقتلهم للقوميين برصاص الغدر.

لم يكن النضال في ذلك الوقت بعد ملعباً لريح فاسدة كما الآن، أو ملعباً يتعايش فيه المواطنون على مصائر بعضهم بعضاً، وتتلاشى فيه الرؤيا وعناد الضمير او الاعتقاد والقيم.

***

في زمن الانبهار بالحياة ووعدها، سطعت في تاريخنا القوميّ رموز لم تستطع متاهات السياسة، أن تطفئ جذوتها، او تأسر إشعاعاتها وقد كنتَ تنظر إليهم بكل ذلك الاحترام والودّ، كما هو مع الأمين الراحل محمود غزالة، والأمينة الراحلة هيام محسن، برغم ما تتركه السياسات اللاقوميّة من ظلال وارتعاشات تسعى في كل منعطف لتحاصر الجمال بالخراب، والقوة بالضعف (قوة لبنان في ضعفه) ويصبح الاحتكام الى قواعد السياسة مثل القتل على الهوية، كما في الحرب الأهلية في منتصف السبعينيّات من القرن المنصرم، فهل اجتمع حاماتي بالأمينين، غزالة ومحسن في بلاد النور، حيث وجودكم الآن، وماذا دار بينكم من أحاديث؟

هل تذكّرت يا أمين هنري، كيف اختُطف الأمين محمود غزالة إبان الحرب الأهلية من قبل القوات اللبنانية وعلّق من يديه لساعات، لولا اتصالك بنائب الأشرفية ذلك الوقت، النائب ميشال ساسين، لتطلب منه نقل رسالة تهديد لكميل شمعون، رئيس الجبهة اللبنانيّة، يبلغه فيها أنّ عليه أن يُطلق سراح الأمين محمود غزالة وإلا سيتحمّل مسؤولية ما سيحصل معه ومن أقربِ الحراس لديه.. وقد فعلتْ رسالة التهديد وأُطلق سراح الأمين محمود غزالة.

وهل نذكر كيف شاءت الصدف الإلهية (ظروف الطقس) أن تُنجيك من محاولة اغتيال في كندا من قبل الموساد الإسرائيليّ، كنت قد وصلت إليها لإلقاء محاضرة، وكيف بقيت تحت حراسة الأمن الكندي لمدة أسبوع قبل أن تعود إلى فرنسا، بحيث تكرّرت محاولات الاغتيال فيها، أيضاً وأيضاً.

في تلك الأجواء الملبّدة بمخاطر التصفية، خارت قوى البعض، لكنها لم تستطع النيل ممن ارتبط وجودهم ومغزى حياتهم بتطلعاتٍ وآمالٍ راودت جيلاً، وإن بدا متعباً.

أدرك أنّ ذاكرتنا باتت في حالة سبات، وأخشى عليها من الانطفاء. وربما يسيء البعض من الرفقاء وأسر الشهداء الظنّ كما لو أنّ نسيان استذكار مآثرهم إنما هو موقفٌ مقصود!!

ليس ذلك كله نسيان، أو عدم وفاء، بل هو عطبٌ في الذاكرة، والنكران فيه مجرد سهو غير مقصود.

***

كنت يا الأمين الأمين في مركز الضوء وبقيت.. كما خلف الستارة مرة، وبين الجمهور أغلب الأحيان. وفي كلّ مركز من مراكز الضوء، داخل الوطن وخارجه، كنت تتحوّل الى قوة مثل واندفاع في مشهد خلاق يومض حتى اليوم حياتنا الحزبية بالفكر الذي يُراد له، ان يكون بلا معنى أو دلالات.

هكذا رأيتك، محاضراً على استكشاف مغاليق الأمور وأنت تشرح كلّ يومٍ، لتضخّ التفاؤل بين رفقائك، وتندفع لاحتضانهم والأخذ بيد من ترى فيه خامة لوعد بالتكوّن والتطوّر.

إننا لا نزال نعيش لحظة تحوّل منذ الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان 2003 مروراً بالحرب الكونية على الشام ومشروع «عار القرن»، حيث تتضافر قوى العالم كله ضدّ أمتنا لكي تكون انزلاقاً نحو الموت بمشاريع فيدرالية، مذهبية وعرقية، لا مشاريع يقظة او نهوضاً.. يُراد كسر إرادتنا وتجريدنا من الأمل والحلم، لا أن تُستنهض فينا طاقة التحدي وإرادة الحياة.

***

هذا هو نسيج الأمين هنري في تاريخ حزبه، كان متفرّداً في تلوينه، فاتحاً أبواب الأمل أمام القوميين «النساج» وكان يحدثني عن الأمينين، غزالة ومحسن، وإيمانهما بسعاده ومشروعه النهضوي. وها نحن، وفي ذكراك الأولى، نُكرّم فيك، كما في الأمين محمود غزالة والأمينة هيام محسن، كلّ النضال الحزبي والإبداع وخلق قيم الحق والخير والجمال.. لاستشراف المستقبل.

كان النضال معك يا حضرة الأمين هنري، ذلك الأمل إذ يتدفق بقوه المثل والإلهام من «العرزال» الذي كسر، رتابة اصطفاف السوريين، في العراق والشام والأردن ولبنان وفلسطين، اصطفاف السوريين في ثنائية محمدي/ مسيحي. وعربي/ كردي/ سرياني/ أشوري/ كلداني..

وفي رحم هذه التناقضات الذي كان يتفجّر، اكتملت قامة الأمين هنري، وحسمت خيارها، وتلاقت مع تباشير الأمل الذي كان يزداد إشعاعه، ويسطع في سماء سوريانا كلها، ولم يكن غريباً أن تطلب إبنة موشي دايان، أحد وزراء دفاع العدو السابقين، عبر إذاعة «مونت كارلو» بالضغط على الشام ولبنان لحذف هذا الحزب من الوجود، لأنه يشكل خطراً على «إسرائيل» والعالم العربي.

وتكرّر الطلب عبر وفد لبناني (قواتي) زار الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن، بضرورة الضغط لإنهاء الحزب السوري القومي الاجتماعي.

كما نحن، لم تتشرّب ذاكرة الأمين الراحل هنري، سوى باللحظات والمقاربات المضيئة التي اقترنت بسنة انتمائه وما تلاها من سنوات نضال وملاحقات أمنية وتهديدات بالتصفية الجسديّة.

كان يغذّ سيره، وفي حمّى العمل لتحويل المبادئ الى حياة معيشة لا يتهدّدها النكوص او الانهيار، وكان عالمه عالم الأمل، الذي خرق كلّ ما هو مألوف ومقدّس سطحيّ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى